منذ أن وحد بسمارك ألمانيا عام 1871، كان محور التاريخ السياسي الأوربي هو نضال الدول الأوربية لاحتواء القوى العسكرية والسياسية والاقتصادية لألمانيا. ومن المعروف ان ألمانيا قد خاضت 3 حروب على مدار قرنين من الزمان، هي الحرب الفرنسية البروسية عام 1870 والحربين العالميتين الأولى والثانية التي استهدف التصدي لما أدركه القادة الألمان على أنه المخاطر المتأصلة في موقع ألمانيا الاستراتيجي المحوري بين فرنسا غربًا وروسيا شرقًا. ودومًا ما كانت هذه الرغبة اليائسة لدى زعماء القارة الراغبين في تفادي الكوارث التي ظهرت خلال النصف الأول من القرن العشرين تملي عليهم الغرض والغرض من والبنية المكونة نظام دولي رئيس في أوروبا منذ عام 1945.
وبدءًا باتفاقية الفحم والحديد المبرمة عام 1950، ومرورًا باتفاقية روما عام 1957 التي تمخضت عنها السوق المشتركة، ومعاهدة ماسترخت عام 1992 التي أعلنت ميلاد اليورو والاتحاد الأوربي، ووصولًا إلى معاهدة لشبونة قبل ثلاثة أعوام والتي ضمت 27 دولة تحت مظلة الاتحاد الأوروبي داخل أكبر كيان دولي في العالم، تكون نسيج قوي بين ألمانيا وباقي دول الاتحاد الأوروبي جعلها تمثل نموذج الحياة العامة في القارة الأوروبية.
لقد كان الاتحاد الأوربي- حتى في تجسيده الأصلي للمجتمع الاقتصادي الأوربي بنهاية فترة الخمسينات- يستهدف احتواء الجانب الاقتصادي الألماني، بينما كان الهدف المعلن هو توحيد المصالح الاقتصادية لجميع الدول الأعضاء ومن ثم لن يكون هناك مجال للنفكير في أي نزاع أوصراع أوهيمنة اقتصادية لأي من الدول الأوروبية على الدول الأخرى.
وفيما يتعلق بإعادة صناعة السياسات الأوربية، حقق الاتحاد الاقتصادي نجاحًا باهرًا، إذ بات من الواضح حاليًا أن فكرة نشوب حرب بين دول الاتحاد أمرًا من الصعب أن يتصوره عقل0 بشر، إذ لا يمكن للمرء تصور أي اعتداء ألماني على دول القارة الأوربية لتحقيق مكاسب سياسية كانت أم اقتصادية. وكما قال روبرت شومان- وزير الخارجية الفرنسي في عام 1950- في خطاب له اقترح فيه مشروع الاتحاد: إن فكرة نشوب "حرب بين فرنسا وألمانيا ليست أمرًا مستبعدًا فقط، بل إنها مستحيلة على الصعيد العملي". لقد تمثل الهدف من الاتحاد والعملية التي يتم تنفذ ذلك من خلالها في ربط ألمانيا مع المؤسسات الأوربية القوية التي تعامل جميع الأعضاء على قدم المساواة، والحد من المعاناة التاريخية، والقضاء على أي محاولة من جانب الدول الأقوى للتمتع بالميزات المختلفة والتفوق على حساب باقي الدول.
وتمثل الجانب العسكري للاحتواء الألماني خلال حقبة الحرب الباردة عبر الناتو والعالم السياسي ثنائي القطب عقب الحرب. حتى أن الحاجة للدفاع عن ألمانيا ذاتها كانت تخضع لقيادة حلف الناتو، وهو الترتيب الذي قوبل بالموافقة دون تفكير من الجانب الألماني. كما تم تمرير خط المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وحلفي الناتو ووارسو عبر ألمانيا المقسمة.
وعلى الرغم من كل ما سبق، لم تغير هذه التعديلات وعمليات الموائمة الاستراتيجية التي تضمنتها عمليات احتواء الكيان الألماني من الطبيعة الجوهرية لألمانيا حيث لم تنجح هذه المارسات في تغيير الشعب الألماني أو مركز هذه الدولة كأكبر وأغنى الدول وأكثرها إنتاجية في أوروبا القديمة والاتحاد الأوربي الحالي على حدٍ سواء. وحتى الشهر الماضي، احتلت ألمانيا المرتبة الأولى عالميًا تصديريًا من حيث قيمة السلع المصدرة، وهو إنجاز يُشار إليه بالبنان لدولة يبلغ تعداد سكانها 82 مليون نسمة، في حين أن الدولة الوحيدة التي تفوقت عليها تصديريًا كانت الصين، والتي يزيد تعداد سكانها عن تعداد ألمانيا 16 ضعفًا.
إنها الهندسة الألمانية التي تتمثل في والإنتاجية والكفاءة هي التي جعلت من منتجاتها الأفضل قيمة بين دول العالم مثالاً يُحتذى به بين شركائها من دول الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي ليثقل ذلك كاهل هذه الدول بأعباء المنافسة مع لكيان الألماني. ومن ثم يجب على باقي الدول الأوربية الأعضاء بمنطقة اليورو منافسة الألمان في ظل عباءة الاتحاد الأوربي والبنك المركزي الأوربي في حين عمل اليورو ومعدل الفائدة البنكية الموحد داخل المنطقة على ربط جميع دول الاتحاد الاقتصادي والنقدي بالاقتصاد الألماني.
لقد انعكست تمامًا العلاقة التي دامت على مدار 16 عامًا بين ألمانيا وباقي الدول الأوربية، فبدلاً من أن تقيد ألمانيا نفسها بالأقدار السياسية لجميع الدول المجاورة لها، أضحت دول الجوار هي التي تربط وتقيد نفسها بالمعايير الاقتصادية الألمانية.
فبالنسبة لفرنسا وهولندا وبلجيكا والسويد والنمسا وجمهورية التشيك وباقي الدول الأوربية- والتي لا تقل اقتصاداتها ولا العاملين بها من حيث الكفاءة كثيرًا عن ألمانيا- بات واضحًا أن منافع الاتحاد من حيث الكفاءة التجارية والمنافسة قد عملت على جذب اقتصاداتها لتصبح أكثر ارتباطًا للمعايير الألمانية.
أما بالنسبة للدول الجنوبية مثل اليونان وأسبانيا والبرتغال وربما إيطاليا أيضًا، فقد اتضح أن الإإغراءات الائتمانية التي تنطوي عليها عضوية منطقة اليورو لا تُقاوم حيث أدى اجتماع إمكانية حصول هذه الدول سهلة المنال مقابل فوائد بسيطة مع الاضطرابات الحادة في عجز الموازنات الحكومية الخاصة بها، وهو ما أدى إلى تحقق النتائج التي كان من السهل التنبؤ بها علاوة على إمكانية التنبؤ بأن هذه الأوضاع لن تستمر طويلًا. ليتحول بعد ذلك تجاوز العجز المالي الحالي إلى تهديد مستمر بالإطاحة بمعايير الات-حاد النقدي الأوروبي التي تتمثل في عدم تجاوز العجز الموازنة للدول الأعضاء حد الـ 3% والدين الحكومي 60% من الناتج المحلي الإجمالي، والمنصوص عليها بمعاهدة ماسترخت. وبالنسبة لهذه الدول- باستثناء إيطاليا، فإن صادراتها لا ترقى إلى الجودة عالية القيمة إذا ما قورنت بألمانيا. ومن ثم فقد لجأت على نحو تقليدي إلى عمليات تخفيض قيمة عملاتها لاستعادة الإنتاجية التنافسية والفعالية التصديرية لاقتصاداتها.
وفي المقابل، كان طريق تخفيض قيمة العملة موصدًا، كما اعترضت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والشعب الألماني طريق خطة الإنقاذ الأوروبية، حيث نرى أن جميعهم لا يرغبون في تحمل ثمن إسراف وتبذير شركائهم بمنطقة اليورو. كما لم يكن إخفاء حقيقة أن خطة الإنقاذ الأوربية المقدمة لليونان ستأتي من أموال دافعي الضرائب الألمانيين. لقد أجبرت المقاومة الألمانية باقي دول الاتحاد الاقتصادي والنقدي على النزول على رغباتها. وبناء عليه، سيقوم صندوق النقد الدولي بإملاء شروطه على اليونان.
ولم يكن هذا هو مفتاح اللغز والذي ظن الكثيرون أنه سيحدث عندما تفجرت الأزمة العام الماضي، إذ ستمضي بضعة أسابيع على المعاقبة العامة والعلنية لليونان، ثم سيخرج الاتحاد الأوربي بخطة الإنقاذ، وكان هذا الرأي الغالب بالقارة الأوربية آنذاك.
ومن المتعارف عليه أن أوروبا لا يمكنها أبدًا جني منافع اليورو والبنك المركزي الأوربي دون التعاون الألماني. وفي الماضي قبلت ألمانيا أن تلعب دور الضامن والملاذ الأخير للاتحاد الأوربي دون أي تحفظ جماهيري، فقد كان الألمان يأتون في المقام الأول بالنسبة لباقي الشعوب الأوربية حيث المصلحة القومية الألمانية تتباين وتختلف عن الولاء المطلق للمشروع الأوروبي. وسيجبر المنطق الاقتصادي لليورو والاتحاد الأوربي على إعادة إصلاح الاتحاد، وهذه المرة ستتزعمه ألمانيا.
جوزيف تريفيساني
شركة اف اكس سوليوشنز
محلّلُ السوق الرئيسي [عذراً, فقط الأعضاء يمكنهم مشاهدة الروابط ]