سورة النور التعريف بالسورة هذه سورة النور . . يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله: (الله نور السماوات والأرض)ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ; ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة . وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية , تنير القلب , وتنير الحياة , ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح , وإشراق في القلوب , وشفافية في الضمائر , مستمدة كلها من ذلك النور الكبير . وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف , ومن آدابوأخلاقسورة أنزلناها وفرضناها , وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). . فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة ; ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية , وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية . والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود . وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة , التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة . والهدف واحد في الشدة واللين . هو تربية الضمائر , واستجاشة المشاعر ; ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة , حتى تشف وترف , وتتصل بنور الله . . وتتداخل الآداب النفسية الفردية , وآداب البيت والأسرة , وآداب الجماعة والقيادة . بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله , متصلة كلها بنور واحد هو نور الله . وهي في صميمها نور وشفافية , وإشراق وطهارة . تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض . نور الله الذي أشرقت به الظلمات . في السماوات والأرض , والقلوب والضمائر , والنفوس والأرواح . ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل في خمسة أشواط: الأول يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به ; ويليه بيان حد الزنا , وتفظيع هذه الفعلة , وتقطيع ما بين الزناة والجماعة المسلمة , فلا هي منهم ولا هم منها . ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه ; واستثناء الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة . ثم حديث الإفك وقصته . . وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات , ومشاكلة الطيبين للطيبات . وبالعلاقة التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء . ويتناول الشوط الثاني وسائل الوقاية من الجريمة , وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية . فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها , والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم . والحض على إنكاح الأيامي . والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء . . وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور , ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية , وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين , وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية . والشوط الثالث يتوسط مجموعة الآداب التي تتضمنها السورة , فيربطها بنور الله . ويتحدث عن أطهر البيوت التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت الله . . وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من اللمعان الكاذب ; أو كظلمات بعضها فوق بعض . ثم يكشف عن فيوض من نور الله في الآفاق:في تسبيح الخلائق كلها لله . وفي إزجاء السحاب . وفي تقليب الليل والنهار . وفي خلق كل دابة من ماء , ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها , مما هومعروض في صفحة الكون للبصائر والأبصار . . والشوط الرابع يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله [ ص ] في الطاعة والتحاكم . ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم . ويعدهم , على هذا , الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين , والنصر على الكافرين . ثم يعود الشوط الخامس إلى آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء . وإلى آداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة , مع رئيسها ومربيها - رسول الله [ ص ] .وتتم السورة بإعلان ملكية الله لما في السماوات والأرض , وعلمه بواقع الناس , وما تنطوي عليه حناياهم , ورجعتهم إليه , وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم . وهو بكل شيء عليم . والآن نأخذ في التفصيل . الدرس الأول:1 طبيعة السورة وأحكامها (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). . مطلع فريد في القرآن كله . الجديد فيه كلمة(فرضناها)والمقصود بها - فيما نعلم - توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء . ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات . هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة , والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات , فتذكرهم بها تلك الآيات البينات , وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين . الدرس الثاني:2 - 10 حد الزنا والقذف والملاعنة ويتبع هذا المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا ; وتفظيع هذه الفعلة , التي تقطع ما بين فاعليها وبين الأمة المسلمة من وشائج وارتباطات: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ; ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله - إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر - وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ; وحرم ذلك على المؤمنين). . كان حد الزانيين في أول الإسلام ما جاء في سورة النساءواللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا). . فكان حد المرأة الحبس في البيت والأذى بالتعبير . وكان حد الرجل الأذى بالتعبير . ثم أنزل الله حد الزنا في سورة النور . فكان هذا هو(السبيل)الذي أشارت إليه من قبل آية النساء . والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء . وهو الذي لم يحصن بالزواج . ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا عاقلا حرا . فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم . وقد ثبت الرجم بالسنة . وثبت الجلد بالقرآن . ولما كان النص القرآني مجملا وعاما . وكان رسول الله [ ص ] قد رجم الزانيين المحصنين , فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن . وهناك خلاف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن . والجمهور على أنه لا يجمع بين الجلد والرجم . كما أن هناك خلافا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده . وحول حد الزاني غير الحر . . وهو خلاف طويل لا ندخل في تفصيله هنا , يطلب في موضعه من كتب الفقه . . إنما نمضي نحن مع حكمة هذا التشريع . فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد , وعقوبة المحصن هي الرجم . ذلك أن الذي سبق له الوطء في نكاح صحيح - وهو مسلم حر بالغ - قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه , فعدوله عنه إلى الزنا يشي بفساد فطرته وانحرافها , فهو جدير بتشديد العقوبة , بخلاف البكر الغفل الغر , الذي قد يندفع تحت ضغط الميل وهو غرير . . وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل . فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر . فهو حري بعقوبة كذلك أشد . والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده - كما سلف - فيشدد في الأخذ به , دون تسامح ولا هوادة: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة , ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله . إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين). فهي الصرامة في إقامة الحد ; وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما , وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته , تراخيا في دين الله وحقه . وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين , فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين . ثم يزيد في تفظيع الفعلة وتبشيعها , فيقطع ما بين فاعليها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك . وحرم ذلك على المؤمنين). . وإذن فالذين يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون . إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن الإيمان وعن مشاعر الإيمان . وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة ; لأنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز . حتى لقد ذهب الإمام أحمد إلى تحريم مثل هذا الرباط بين زان وعفيفة , وبين عفيف وزانية ; إلا أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر . وعلى أية حال فالآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية , ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني ; واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد: (وحرم ذلك على المؤمنين). . وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة . ورد في سبب نزول هذه الآية أن رجلا يقال له:مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة . وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها:عناق . وكانت صديقة له . وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله . قال:فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة . قال:فجاءت عناق , فأبصرت سواد ظل تحت الحائط . فلما انتهت إلي عرفتني . فقالت:مرثد ? فقلت:مرثد ! فقالت:مرحبا وأهلا . هلم فبت عندنا الليلة:قال:فقلت:يا عناق حرم الله الزنا . فقالت:يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم . قال:فتبعني ثمانية , ودخلت الحديقة . فانتهيت إلى غار أو كهف , فدخلت , فجاءوا حتى قاموا على رأسي , فبالوا , فظل بولهم على رأسي , فأعماهم الله عني . قال:ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته ; وكان رجلا ثقيلا ; حتى انتهيت إلى الإذخر ; ففككت عنه أحبله , فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة ; فأتيت رسول الله [ ص ] فقلت:يا رسول الله أنكح عناقا ? - مرتين - فأمسك رسول الله [ ص ] فلم يرد علي شيئا حتى نزلت(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك , وحرم ذلك على المؤمنين)فقال رسول الله [ ص ]:" يا مرثد . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة . فلا تنكحها " . فهذه الرواية تفيد تحريم نكاح المؤمن للزانية ما لم تتب , ونكاح المؤمنة للزاني كذلك . وهو ما أخذ به الإمام أحمد . ورأى غيره غير رأيه . والمسألة خلافية تطلب في كتب الفقه . وعلى أية حال فهي فعلة تعزل فاعلها عن الجماعة المسلمة ; وتقطع ما بينه وبينها من روابط . وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو أشد وقعا ! والإسلام وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع الفطرية أو يحاربها . فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول , ولا خير لهم في كبتها أو قتلها . ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها الله في كيانهم , وجعلها جزءا من ناموس الحياة الأكبر , يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة , وعمارة الأرض , التي استخلف فيها هذا الإنسان . إنما أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد , أو لا تهدف إلى إقامة بيت , وبناء عش , وإنشاء حياة مشتركة , لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة ! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية , التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين , وبتعبير شامل التقاء إنسانين , تربط بينهما حياة مشتركة , وآمال مشتركة , وآلام مشتركة , ومستقبل مشترك , يلتقي في الذرية المرتقبة , ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك , الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان . من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية , تذهب بكل هذه المعاني , وتطيح بكل هذه الأهداف ; وترد الكائن الإنساني مسخا حيوانيا , لا يفرق بين أنثى وأنثى , ولا بين ذكر وذكر . مسخا كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة . فإن فرق وميز فليس وراء اللذة بناء في الحياة , وليس وراءها عمارة في الأرض , وليس وراءها نتاج ولا إرادة نتاج ! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية , لأن العاطفة تحمل طابع الاستمرار . وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المتقطع , الذي يحسبه الكثيرون عاطفة يتغنون بها , وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض الأحيان ! إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ; إنما ينظمها ويطهرها , ويرفعها عن المستوى الحيواني , ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية . فأما الزنا - وبخاصة البغاء - فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية , والأشواق العلوية ; ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل ; ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان , بل أشد غلظا من الحيوان . ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة , في حياة زوجية منظمة , بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا - وبخاصة البغاء - في بعض بيئات الإنسان ! دفع هذه النكسة عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا . . ذلك إلى الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلام عن هذه الجريمة , من اختلاط الأنساب , وإثارة الأحقاد , وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة . . . وكل واحد من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة . ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية , ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس , والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد . . هذا السبب هو الأهم في اعتقادي . وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية الأخرى . على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل , ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها . فالإسلام منهج حياة متكامل , لا يقوم على العقوبة ; إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة . ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر . وفي هذه السورة نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق . . فإذا وقعت الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله [ ص ]: ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطى ء في العفو خير من أن يخطى ء في العقوبة لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل . أو اعترافا لا شبهة في صحته . وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية لا تردع أحدا , لأنها غير قابلة للتطبيق . ولكن الإسلام - كما ذكرنا - لا يقيم بناءه على العقوبة , بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة ; وعلى تهذيب النفوس , وتطهير الضمائر ; وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب , فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة . ولا يعاقب إلا المتبجحين بالجريمة , الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود . أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية . وقد جاء كل منهما يطلب من النبي [ ص ] أن يطهره بالحد , ويلح في ذلك , على الرغم من إعراض النبي مرارا ; حتى بلغ الإقرار أربع مرات . ولم يعد بد من إقامة الحد , لأنه بلغ إلى الرسول بصفة مستيقنة لا شبهة فيها . والرسول [ ص ] يقول:" تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب " فإذا وقع اليقين , وبلغ الأمر إلى الحاكم , فقد وجب الحد ولا هوادة , ولا رأفة في دين الله . فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة , وعلى الآداب الإنسانية , وعلى الضمير البشري . وهي رأفة مصطنعة . فالله أرأف بعباده . وقد اختار لهم . وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم . والله أعلم بمصالح العباد , وأعرف بطبائعهم , فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية ; فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا , وتفسد فيها الفطرة , وترتكس في الحمأة , وتنتكس إلى درك البهيمة الأولى . . والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة , وتطهير الجو الذي تعيش فيه . والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة - كما قلنا - إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة . لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة . ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة ; فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا . وأولئك هم الفاسقون). . إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات - وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا - بدون دليل قاطع , يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء ; ثم يمضي آمنا ! فتصبح الجماعة وتمسي , وإذا أعراضها مجرحة , وسمعتها ملوثة ; وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام ; وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه , وكل رجل فيها شاك في أصله , وكل بيت فيها مهدد بالانهيار . . وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق . ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث ; وأن الفعلة فيها شائعة ; فيقدم عليها من كان يتحرج منها , وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها , وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها ! ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه ; والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء . لهذا , وصيانة للأعراض من التهجم , وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم . . شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف , فجعلها قريبة من عقوبة الزنا . . ثمانين جلدة . . مع إسقاط الشهادة , والوصم بالفسق . . والعقوبة الأولى جسدية . والثانية أدبية في وسط الجماعة ; ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة , وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام ! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم . . ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل , أو بثلاثة معه إن كان قد رآه . فيكون قوله إذن صحيحا . ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة . والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه , وعدم التحرج من الإذاعة به , وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها , ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة . وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء ; وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت . وتظل العقوبات التي توقع على القاذف , بعد الحد , مصلتة فوق رأسه , إلا أن يتوب: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم). . وقد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء:هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها , فيرفع عنه وصف الفسق , ويظل مردود الشهادة ? أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة . . فذهب الأئمة مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته , وارتفع عنه حكم الفسق . وقال الإمام أبو حنيفة:إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة , فيرتفع الفسق بالتوبة , ويبقى مردود الشهادة . وقال الشعبي والضحاك:لا تقبل شهادته , وإن تاب , إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف ; فحينئذ تقبل شهادته . وأنا أختار هذا الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف . وبذلك يمحي آخر أثر للقذف . ولا يقال:إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الأدلة ! ولا يحيك في أي نفس ممن سمعوا الاتهام أنه ربما كان صحيحا ; ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود . . بذلك يبرأ العرض المقذوف تماما , ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية ; فلا يبقى هنالك داع لإهدار اعتبار القاذف المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان . ذلك حكم القذف العام . ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته . فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات . والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه . لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص: (والذين يرمون أزواجهم , ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم . فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين , والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين , والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم). . وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج , يناسب دقة الحالة وحرج الموقف . ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته ; وليس له من شاهد إلا نفسه . فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا , ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . وتمسى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد . فإذا فعل أعطاها قدر مهرها , وطلقت منه طلقة بائنة , وحق عليها حد الزنا وهو الرجم . . ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ; وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة . . بذلك يدرأ عنها الحد , وتبين من زوجها بالملاعنة ; ولا ينسب ولدها - إن كانت حاملا - إليه بل إليها . ولا يقذف الولد ومن يقذفه يحد . . وقد عقب على هذا التخفيف والتيسير , ومراعاة الأحوال والظروف بقوله: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته , وأن الله تواب حكيم). . ولم يبين ما الذي كان يكون لولا فضل الله ورحمته بمثل هذه التيسيرات , وبالتوبة بعد مقارفة الذنوب . . لم يبينه ليتركه مجملا مرهوبا , يتقيه المتقون . والنص يوحي بأنه شر عظيم . وقد وردت روايات صحيحة في سبب نزول هذا الحكم: روى الإمام أحمد - يإسناده - عن ابن عباس قال:لما نزلت: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار - رضي الله عنه -:أهكذا أنزلت يا رسول الله ? فقال رسول الله [ ص ]:" يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ? " فقالوا:يا رسول الله لا تلمه , فإنه رجل غيور . والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا , وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته . . فقال سعد:والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق , وأنها من الله ; ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء . فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته . . قال:فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية , فجاء من أرضه عشاء , فوجد عند أهله رجلا , فرأى بعينيه , وسمع بأذنيه , فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله [ ص ] فقال:يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء , فوجدت عندها رجلا , فرأيت بعيني وسمعت بأذني . . فكره رسول الله [ ص ] ما جاء به ; واشتد عليه ; واجتمعت عليه الأنصار وقالوا:قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة , إلا أن يضرب رسول الله [ ص ] هلال بن أمية , ويبطل شهادته في الناس . فقال هلال:والله إني لأرجو أن يجعل الله منها مخرجا . وقال هلال:يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به , والله يعلم إني لصادق . . فوالله إن رسول الله [ ص ] يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسول الله [ ص ] الوحي . وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه . [ يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي ] فنزلت: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله . . . الآية فسري عن رسول الله [ ص ] فقال:" أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا " . . فقال هلال:قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل . فقال رسول الله [ ص ]:" أرسلوا إليها " فأرسلوا إليها فجاءت ; فتلاها رسول الله [ ص ] عليهما , فذكرهما , وأخبرهما أنعذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا . فقال هلال:والله يا رسول الله لقد صدقت عليها . فقالت:كذب . فقال رسول الله [ ص ]:" لاعنوا بينهما " . . فقيل لهلال:اشهد . فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . فلما كانت الخامسة قيل له:يا هلال اتق الله , فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة , وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فقال:والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها . فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . . ثم قيل للمرأة . اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين . وقيل لها عند الخامسة:اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة . وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف . ثم قالت:والله لا أفضح قومي . فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . . ففرق رسول الله [ ص ] بينهما ; وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ; ولا يرمي ولدها ; ومن رمى ولدها فعليه الحد ; وقضى أن لا بيت لها عليه , ولا قوت لها , من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها . وقال:" إن جاءت به , أصهيب أريسح حمش الساقين فهو لهلال . . وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو الذي رميت به " . . فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين . فقال رسول الله [ ص ]:" لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " . . وهكذا جاء هذا التشريع لمواجهة حالة واقعة بالفعل , وعلاج موقف صعب على صاحبه وعلى المسلمين , قد اشتد على رسول الله [ ص ] ولم يجد منه مخرجا , حتى طفق يقول لهلال بن أمية - كما ورد في رواية البخاري - " البينة أو حد في ظهرك " وهلال يقول:يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ? ولقد يقول قائل:أليس الله - سبحانه - يعلم أن هذه الحالة قد تعترض التشريع العام للقذف ; فلماذا لم ينزل الله الاستثناء إلا بعد ذلك الموقف المحرج ? والجواب:بلى إنه سبحانه ليعلم . ولكن حكمته تقتضي أن ينزل التشريع عند الشعور بالحاجة إليه , فتستقبله نفوس الناس باللهفة إليه , وإدراك ما فيه من حكمة ورحمة . ومن ثم عقب عليه بقولهولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم). ونقف قليلا أمام هذه الواقعة , لنرى كيف صنع الإسلام , وكيف صنعت تربية رسول الله [ ص ] للناس لهذا القرآن . . كيف صنع هذا بالنفس العربية الغيور الشديدة الانفعال , المتحمسة التي لا تفكر في قصة الافك طويلا قبل الاندفاع . فهذا حكم ينزل بعقوبة القذف , فيشق على هذه النفوس . يشق عليها حتى ليسأل سعد ابن عبادة رسول الله [ ص ] أهكذا أنزلت يا رسول الله ? يسأل هذا السؤال وهو مستيقن أنها هكذا أنزلت . ولكنه يعبر بهذا السؤال عن المشقة التي يجدها في نفسه من الخضوع لهذا الحكم في حالة معينة في فراشه . وهو يعبر عن مرارة هذا التصور بقوله:" والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق . وأنها من الله ; ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ? فوالله إني لا آتي بهم حتى يكون قد قضى حاجته" ! وما يلبث هذا التصور المرير الذي لا يطيقه سعد بن عبادة في خياله . . ما يلبث أن يتحقق . . فهذا رجل يرى بعينيه ويسمع بأذنيه , ولكنه يجد نفسه محجوزا بحاجز القرآن ; فيغلب مشاعره , ويغلب وراثاته , ويغلب منطق البيئة العربية العنيف العميق ; ويكبح غليان دمه , وفوران شعوره , واندفاع أعصابه . . ويربط على هذا كله في انتظار حكم الله وحكم رسول الله [ ص ] وهو جهد شاق مرهق ; ولكن التربية الإسلامية أعدت النفوس لاحتماله كي لا يكون حكم إلا لله , في ذات الأنفس وفي شؤون الحياة . كيف أمكن أن يحدث هذا ? لقد حدث لأنهم كانوا يحسون أن الله معهم , وأنهم في كنف الله , وأن الله يرعاهم , ولا يكلفهم عنتا ولا رهقا , ولا يتركهم عندما يتجاوز الأمر طاقتهم , ولا يظلمهم أبدا . كانوا يعيشون دائما في ظل الله , يتنفسون من روح الله , ويتطلعون إليه دائما كما يتطلع الأطفال إلى العائل الكافل الرحيم . . فها هو ذا هلال بن أمية يرى بعينيه ويسمع بأذنيه , وهو وحده ; فيشكو إلى رسول الله [ ص ] فلا يجد رسول الله [ ص ] مناصا من تنفيذ حد الله , وهو يقول له:" البينة . أو حد في ظهرك " ولكن هلال بن أمية لا يتصور أن الله تاركه للحد , وهو صادق في دعواه . فإذا الله ينزل ذلك الاستثناء في حالة الأزواج ; فيبشر رسول الله [ ص ] هلالا به ; فإذا هو يقول قولة الواثق المطمئن:قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل . . فهو الاطمئنان إلى رحمة الله ورعايته وعدله . والاطمئنان أكثر إلى أنه معهم , وأنهم ليسوا متروكين لأنفسهم ; إنما هم في حضرته , وفي كفالته . . وهذا هو الإيمان الذي راضهم على الطاعة والتسليم والرضى بحكم الله . الدرس الثالث:11 - 18 استنكار موقف بعض المسلمين من الإفك وبعد الانتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف , يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته ; وهو يتناول بيت النبوة الطاهرة الكريم , وعرض رسول الله [ ص ] أكرم إنسان على الله , وعرض صديقه الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - أكرم إنسان على رسول الله [ ص ] وعرض رجل من الصحابة - صفوان بن المعطل رضي الله عنه - يشهد رسول الله أنه لم يعرف عليه إلا خيرا . . وهو يشغل المسلمين في المدينة شهرا من الزمان . . ذلك هو حديث الإفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم , بل هو خير لكم . لكل امرى ء منهم ما اكتسب من الإثم , والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا , وقالوا:هذا إفك مبين . لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم . إذ تلقونه بألسنتكم , وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ; وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم . ولولا إذ سمعتموه قلتم:ما يكونلنا أن نتكلم بهذا . سبحانك ! هذا بهتان عظيم . يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة , والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم . يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر , ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ; ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم . ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله . وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم . والله غفور رحيم . إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة , ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق , ويعلمون أن الله هو الحق المبين . الخبيثات للخبيثين , والخبيثون للخبيثات , والطيبات للطيبين , والطيبون للطيبات , أولئك مبرأون مما يقولون , لهم مغفرة ورزق كريم). . هذا الحادث . حادث الإفك . قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق ; وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ; وعلق قلب رسول الله [ ص ] وقلب زوجة عائشة التي يحبها , وقلب أبي بكر الصديق وزوجه , وقلب صفوان بن المعطل . . شهرا كاملا . علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق .
فلندع عائشة - رضي الله عنها - تروي قصة هذا الألم , وتكشف عن سر هذه الآيات: عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله [ ص ] إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه , فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ; وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي , فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب , وأنا أحمل في هودج , وأنزل فيه . فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله [ ص ] من غزوته تلك , وقفل , ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ; فقمت حين آذنوا بالرحيل , حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل , فلمست صدري , فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع , فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ; وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني , فاحتملوا هودجي , فرحلوه على بعيري , وهم يحسبون أني فيه ; وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ; وإنما نأكل العلقة من الطعام ; فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج , فحملوه ; وكنت جارية حديثة السن ; فبعثوا الجمل وساروا , فوجدت عقدي , بعدما استمر الجيش , فجئت منزلهم , وليس فيه أحد منهم , فتيممت منزلي الذي كنت فيه , وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ; فبينما أنا جالسة غلبتني عيناني فنمت . وكان صفوان بن المعطل السلمي . ثم الذكواني . قد عرس وراء الجيش , فأدلج , فأصبح عند منزلي ; فرأى سواد إنسان نائم , فأتاني فعرفني حين رآني . وكان يراني قبل الحجاب . فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني , فخمرت وجهي بجلبابي ; والله ما يكلمني بكلمة , ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ; وهوى حتى أناخ راحلته , فوطى ء على يديها , فركبتها , فانطلق يقود بي الراحلة , حتى أتينا الجيش , بعد ما نزلوا معرسين . قالت:فهلك في شأني من هلك . وكان الذي تولى كبرالإثم عبد الله بن أبي بن سلول ; فقدمنا المدينة , فاشتكيت بها شهرا ; والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر . وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي [ ص ] اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي , إنما يدخل فيسلم ثم يقول:كيف تيكم ? ثم ينصرف . فذلك الذي يريبني منه , ولا أشعر بالشر حتى نقهت , فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف , وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط . فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه , وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - حين فرغنا من شأننا نمشي . فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت:تعس مسطح ! فقلت لها:بئسما قلت . أتسبين رجلا شهد بدرا ? فقالت:يا هنتاه ألم تسمعي ما قال ? فقلت:وما قال ? فأخبرتني بقول أهل الإفك , فازددت مرضا إلى مرضي . فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله [ ص ] فقال:كيف تيكم ? فقلت:ائذن لي أن آتي أبوي . وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما . فأذن لي , فأتيت أبوي , فقلت لأمي:يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به ? فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن , فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . فقلت:سبحان الله ! ولقد تحدث الناس بهذا ? قالت:فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . ثم أصبحت أبكي . فدعا رسول الله [ ص ] علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله . قالت:فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله , وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم . فقال أسامة:هم أهلك يا رسول الله , ولا نعلم والله إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال:يا رسول الله لم يضيق الله عليك , والنساء سواها كثير , وسل الجارية تخبرك . قالت:فدعا رسول الله [ ص ] بريرة فقال لها:أي بريرة . هل رأيت فيها شيئا يريبك ? فقالت:لا والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها , فتأتي الداجن فتأكله . قالت:فقام رسول الله [ ص ] من يومه , واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول . فقال وهو على المنبر:من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ? فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا , وما كان يدخل على أهلي إلا معي . قالت:فقام سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال:يا رسول الله أنا والله أعذرك منه . إن كان من الأوس ضربنا عنقه , وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام سعد بن عبادة - رضي الله عنه - وهو سيد الخزرج , وكان رجلا صالحا ولكن أخذته الحمية . فقال لسعد بن معاذ:كذبت لعمر الله , لا تقتله ولا تقدر على ذلك . فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة:كذبت - لعمر الله - لنقتلنه , فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فثار الحيان - الأوسوالخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا , ورسول الله [ ص ] على المنبر , فلم يزل يحفظهم حتى سكتوا ونزل . وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع , ولا أكتحل بنوم . ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . فأصبح أبواي عندي , وقد بكيت ليلتين ويوما , حتى أظن أن البكاء فالق كبدي . فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار , فأذنت لها , فجلست تبكي معي . فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله [ ص ] , ثم جلس , ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها , وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء , فتشهد حين جلس , ثم قال:" أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا . فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى , وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه , فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله تعالى عليه " . فلما قضى رسول الله [ ص ] مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة . فقلت لأبي:أجب عني رسول الله [ ص ] فيما قال . قال:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] فقلت لأمي:أجيبي عني رسول الله [ ص ] فيما قال . قالت:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] . قالت:وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن . فقلت:إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به , واستقر في نفوسكم , وصدقتم به . فلئن قلت لكم:إني بريئة لا تصدقوني بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة , لتصدقنني . فوالله مما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال:"فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون" . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي , وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة , وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى ; ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى ; ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ ص ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها . فوالله ما رام مجلسه , ولا خرج أحد من أهل البيت , حتى أنزل الله تعالى على نبيه [ ص ] فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء , فسري عنه , وهو يضحك , فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي:يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك . فقالت لي أمي:قومي إلى رسول الله [ ص ] فقلت:والله لا أقوم إليه , ولا أحمد إلا الله تعالى , هو الذي أنزل براءتي . فأنزل الله تعالى: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . . . العشر الآيات فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره:والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة . . إلى قوله (والله غفور رحيم)فقال أبو بكر - رضي الله عنه - بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي , فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه , وقال:والله لا أنزعها منه أبدا . قالت عائشة رضي الله عنها:وكان رسول الله [ ص ] سأل زينب بنت جحش عن أمري , فقال:" يا زينب . ما علمت وما رأيت ? " فقالت:يا رسول الله أحمي سمعي وبصري , والله ما علمت عليها إلا خيرا . وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي [ ص ] فعصمها الله تعالى بالورع . قالت:فطفقت أختها حمنة تحارب لها , فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك . وهكذا عاش رسول الله [ ص ] وأهل بيته . وعاش أبو بكر - رضي الله عنه - وأهل بيته . وعاش صفوان بن المعطل . وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق , وفي ظل تلك الآلام الهائلة , بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات . وإن الإنسان ليقف متململا أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول [ ص ] وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة زوجه المقربة . وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة . تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيقة . فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة . ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها , ونظافة تصوراتها , ها هي ذي ترمي في أعز ما تعتز به . ترمى في شرفها . وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع . وترمى في أمانتها . وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم . وترمى في وفائها . وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القرب الكبير . . ثم ترمى في إيمانها . وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام , من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة . وهي زوج رسول الله [ ص ] . ها هي ذي ترمى , وهي بريئة غارة غافلة , لا تحتاط لشيء , ولا تتوقع شيئا ; فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله , وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا , تبرئها مما رميت به . ولكن الوحي يتلبث , لحكمة يريدها الله , شهرا كاملا ; وهي في مثل هذا العذاب . ويا لله لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح . وهي مهدودة من المرض . فتعاودها الحمى ; وهي تقول لأمها في أسى:سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا ? وفي رواية أخرى تسأل:وقد علم به أبي ? فتجيب أمها:نعم ! فتقول:ورسول الله [ ص ] ? - فتجيبها أمها كذلك:نعم ! ويا لله لها ورسول الله [ ص ] نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه , يقول لها:" أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا ; فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى , وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه , فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه " . . فتعلم أنه شاك فيها , لا يستيقن من طهارتها , ولا يقضي في تهمتها . وربه لم يخبره بعد , ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن لا تملك إثباتها ; فتمسي وتصبح وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها , وأحلها في سويدائه ! وها هو ذا أبو بكر الصديق - في وقاره وحساسيته وطيب نفسه - يلذعه الألم , وهو يرمى في عرضه . في ابنته زوج محمد - صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه , ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل , لا يطلب دليلا من خارجه . . وإذا الألم يفيض على لسانه , وهو الصابر المحتسب القوي على الألم , فيقول:والله ما رمينا بهذا في جاهلية . أفنرضى به في الإسلام ? وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل . حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة:أجب عني رسول الله [ ص ] قال في مرارة هامدة:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] ! وأم رومان - زوج الصديق رضي الله عنهما - وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء . المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها . فتقول لها:يا بنية هوني على نفسك الشأن , فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . . ولكن هذا التماسك بتزايل وعائشة تقول لها:أجيبي عني رسول الله [ ص ] فتقول كما قال زوجها من قبل:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] ! والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل . وهو يرمي بخيانة نبيه في زوجه . فيرمي بذلك في إسلامه , وفي أمانته , وفي شرفه , وفي حميته . وفي كل ما يعتز به صحابي , وهو من ذلك كله برى ء . وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره , فيقول:سبحان الله ! والله ما كشفت كتف أنثى قط . ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الإفك عنه , فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه ضربة تكاد تودي به . ودافعه إلى رفع سيفه على امرى ء مسلم , وهو منهى عنه , أن الألم قد تجاوز طاقته , فلم يملك زمام نفسه الجريح ! ثم ها هو ذا رسول الله [ ص ] وهو رسول الله , وهو في الذروة من بني هاشم . . ها هو ذا يرمى في بيته . وفي من ? في عائشة التي حلت من قلبه في مكان الابنة والزوجه والحبيبة . وها هو ذا يرمى في طهارة فراشه , وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة . وها هو ذا يرمي في صيانة حرمته , وهو القائم على الحرمات في أمته . وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له , وهو الرسول المعصوم من كل سوء . ها هو ذا [ ص ] يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة - رضي الله عنها - يرمى في فراشه وعرضه , وقلبه ورسالته . يرمى في كل ما يعتز به عربي , وكل ما يعتز به نبي . . ها هو ذا يرمى في هذا كله ; ويتحدث الناس به في المدينة شهرا كاملا , فلا يملك أن يضع لهذا كله حدا . والله يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهرا كاملا لا يبين فيه بيانا . ومحمد الإنسان يعاني ما يعانيه الإنسان في هذا الموقف الأليم . يعاني من العار , ويعاني فجيعة القلب ; ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة . الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق . . والشك يعمل في قلبه - مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله , ولكنه لا يطمئن نهائيا إلى هذه القرائن - والفرية تفوح في المدينة , وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك ; فلا يملك أن يطرد الشك . لأنه في النهاية بشر , ينفعل في هذا انفعالات البشر . وزوج لا يطيق أن يمس فراشه . ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت , ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم . وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده , فيبعث إلى أسامة بن زيد . حبه القريب إلى قلبه . . ويبعث إلى علي ابن أبي طالب . ابن عمه وسنده . يستشيرهما في خاصة أمره . فأما علي فهو من عصب محمد , وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب . ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد , ابن عمه وكافله . فهو يشير بأن الله لم يضيق عليه . ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله [ ص ] ويستقر على قرار . وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول الله [ ص ] من الود لأهله , والتعب لخاطر الفراق , فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين , وكذب المفترين الأفاكين . ورسول الله [ ص ] في لهفة الإنسان , وفي قلق الإنسان , يستمد من حديث أسامة , ومن شهادة الجارية مددا وقوة يواجه بهما القوم في المسجد , فيستعذر ممن نالوا عرضه , ورموا أهله , ورموا رجلا من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء . . فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور - وهم في مسجد رسول الله [ ص ] وفي حضرة رسول الله [ ص ] ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة , وقد خدشت قداسة القيادة , ويحز هذا في نفس الرسول [ ص ] والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق ! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها يصارحها بما يقول الناس ; ويطلب منها هي البيان الشافي المريح ! وعندما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه , فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقةالطاهرة ; وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع ; ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك , ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم . ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل:"وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة , وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى . ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى . ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ ص ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها" . . ولكن الأمر - كما يبدو من ذلك الاستعراض - لم يكن أمر عائشة - رضي الله عنها - ولا قاصرا على شخصها . فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول [ ص ] ووظيفته في الجماعة يومها . بل تجاوزه إلى صلته بربه ورسالته كلها . وما كان حديث الإفك رمية لعائشة وحدها , إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها . . من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة , ويرد المكيدة المدبرة , ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام ; ويكشف عن الحكمة العليا وراء ذلك كله ; وما يعلمها إلا الله: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم , بل هو خير لكم . لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم . والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم . فهم ليسوا فردا ولا أفرادا ; إنما هم(عصبة)متجمعة ذات هدف واحد . ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك . إنما هو الذي تولى معظمه . وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين , الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة ; فتواروا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خفية . وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة . ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش ; وحسان بن ثابت , ومسطح بن أثاثة . أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة , وعلى رأسها ابن سلول , الحذر الماكر , الذي لم يظهر بشخصه في المعركة . ولم يقل علانية ما يؤخذ به , فيقاد إلى الحد . إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم , ولا يشهدون عليه . وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهرا كاملا , وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها ! وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث , وعمق جذوره , وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم . ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد: (لا تحسبوه شرا لكم ; بل هو خير لكم). . خير . فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله [ ص ] وأهل بيته . وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله ; ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . فهي عندئذ لا تقف عند حد . إنما تمضي صعدا إلى أشرف المقامات , وتتطاول إلى أعلى الهامات , وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء . وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة - بهذه المناسبة - عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم . أما الآلام التي عاناها رسول الله [ ص ] وأهل بيته , والجماعة المسلمة كلها , فهي ثمن التجربة , وضريبة الابتلاء , الواجبة الأداء ! أما الذين خاضوا في الإفك , فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة: (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم). . ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله . وبئس ما اكتسبوه , فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم)يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم . والذي تولى كبره , وقاد حملته , واضطلع منه بالنصيب الأوفى , كان هو عبد الله بن أبي بن سلول . رأس النفاق , وحامل لواء الكيد . ولقد عرف كيف يختار مقتلا , لولا أن الله كان من ورائه محيطا , وكان لدينه حافظا , ولرسوله عاصما , وللجماعة المسلمة راعيا . . ولقد روي أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في ملأ من قومه قال:من هذه ? فقالوا:عائشة رضي الله عنها . . فقال:والله ما نجت منه ولا نجا منها . وقال:امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ; ثم جاء يقودها ! وهي قولة خبيثة راح يذيعها - عن طريق عصبة النفاق - بوسائل ملتوية . بلغ من خبثها أن تموج المدينة بالفرية التي لا تصدق , والتي تكذبها القرائن كلها . وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين . وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهرا كاملا . وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الأولى . وإن الإنسان ليدهش - حتى اليوم - كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حينذاك . وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة , وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق . لقد كانت معركة خاضها رسول الله [ ص ] وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك . وخاضها الإسلام . معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله [ ص ] وخرج منها منتصرا كاظما لآلامه الكبار , محتفظا بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره . فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله . والآلام التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته . والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها في تاريخه . ولو استشار كل مسلم قلبه يومها لأفتاه ; ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه . والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا المنهج في مواجهة الأمور , بوصفه أول خطوة في الحكم عليها: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا , وقالوا:هذا إفك مبين). . نعم كان هذا هو الأولى . . أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا . وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحمأة . . وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم . فظن الخير بهما أولى . فإن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله [ ص ] ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرا . . كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته - رضي الله عنهما - كما روى الإمام محمد ابن إسحاق:أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب:يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة - رضي الله عنها ? - قال:نعم . وذلك الكذب . أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ? قالت:لا والله ما كنت لأفعله . قال:فعائشة والله خير منك . . ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره:"الكشاف" أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب:ألا ترين ما يقال ? فقالت:لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله [ ص ] سوءا ? قال:لا . قالت:ولو كنت أنا بدل عائشة - رضي الله عنها - ما خنت رسول الله [ ص ] فعائشة خير مني , وصفوان خير منك . . وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه , فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة , وما نسب إلى رجل من المسلمين:من معصية لله وخيانة لرسوله , وارتكاس في حمأة الفاحشة , لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة ! هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور . خطوة الدليل الباطني الوجداني . فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي: لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . . وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات , وأطهر الأعراض , ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة ; وأن تشيع هكذا دون تثبت ولا بينة ; وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد ولا دليل: لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء ! وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن . كاذبون عند الله الذي لا يبدل القول لديه , والذي لا يتغير حكمه , ولا يتبدل قراره . فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي لا براءة لهم منها , ولا نجاة لهم من عقباها . هاتان الخطوتان:خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير . وخطوة التثبت بالبينة والدليل . . غفل عنهما المؤمنون في حادث الإفك ; وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله [ ص ] وهو أمر عظيم لولا لطف الله لمس الجماعة كلها البلاء العظيم . فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبدا بعد هذا الدرس الأليم: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم). . لقد احتسبها الله للجماعة المسلمة الناشئة درسا قاسيا . فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسسهم بعقابه وعذابه . فهي فعلة تستحق العذاب العظيم . العذاب الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول [ ص ] وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلا خيرا . والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع ; ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجماعة . والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل , حافل بالقلق والقلقة والحيرة بلا يقين ! ولكن فضل الله تدارك الجماعة الناشئة , ورحمته شملت المخطئين , بعد الدرس الأليم . والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام ; واختلت فيها المقاييس , واضطربت فيها القيم , وضاعت فيها الأصول: (إذ تلقونه بألسنتكم , وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ; وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم). . وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج , وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام: (إذ تلقونه بألسنتكم). . لسان يتلقى عن لسان , بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إنعام نظر . حتى لكأن القول لا يمر على الآذان , ولا تتملاه الرؤوس , ولا تتدبره القلوب ! (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم). . بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم . إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه , قبل أن تستقر في المدارك , وقبل أن تتلقاها العقول . . (وتحسبونه هينا)أن تقذفوا عرض رسول الله , وأن تدعوا الألم يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله ; وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يرم في الجاهلية ; وأن تتهموا صحابيا مجاهدا في سبيل الله . وأن تمسوا عصمة رسول الله [ ص ] وصلته بربه , ورعاية الله له . . (وتحسبونه هينا). . (وهو عند الله عظيم). . وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي , وتضج منه الأرض والسماء . ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه , وأن تتحرج من مجرد النطق به , وأن تنكر أن يكون هذا موضوعا للحديث ; وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا ; وأن تقذف بهذا الإفك بعيدا عن ذلك الجو الطاهر الكريم: (ولولا إذ سمعتموه قلتم:ما يكون لنا أن نتكلم بهذا . سبحانك ! هذا بهتان عظيم). . وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزها هزا ; وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما عملت . . عندئذ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين). . (يعظكم). . في أسلوب التربية المؤثر . في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار . مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كانيعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا). . ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة: (إن كنتم مؤمنين). . فالمؤمنون لا يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف , وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير , ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون: (ويبين الله لكم الآيات). . على مثال ما بين في حديث الإفك , وكشف عما وراءه من كيد ; وما وقع فيه من خطايا وأخطاء: (والله عليم حكيم)يعلم البواعث والنوايا والغايات والأهداف ; ويعلم مداخل القلوب , ومسارب النفوس . وهو حكيم في علاجها , وتدبير أمرها , ووضع النظم والحدود التي تصلح بها . . الدرس الرابع:19 - 22 معالجة بعض آثار حادث الإفك ثم يمضي في التعقيب على حديث الإفك ; وما تخلف عنه من آثار ; مكررا التحذير من مثله , مذكرا بفضل الله ورحمته , متوعدا من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في الآخرة . ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة ; وإطلاقها من ملابسات الأرض , وإعادة الصفاء إليها والإشراق . . كما تتمثل في موقف أبي بكر - رضي الله عنه - من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة , والله يعلم وأنتم لا تعلمون). . والذين يرمون المحصنات - وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم - إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة ; وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة , وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها . . بذلك تشيع الفاحشة في النفوس , لتشيع بعد ذلك في الواقع . من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا , وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة . وذلك جانب من منهج التربية , وإجراء من إجراءات الوقاية . يقوم على خبرة بالنفس البشرية , ومعرفة بطريقة تكيف مشاعرها واتجاهاتها . . ومن ثم يعقب بقوله: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون). . ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها ? ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي برأها ? ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن , ولا يخفى على علمه شيء إلا العليم الخبير ? ومرة أخرى يذكر المؤمنين بفضل الله عليهم ورحمته: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم). . إن الحدث لعظيم , وإن الخطأ لجسيم , وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء . ولكن فضل الله ورحمته , ورأفته ورعايته . . ذلك ما وقاهم السوء . . ومن ثم يذكرهم به المرة بعد المرة ; وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين . فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكا أن يصيبهم جميعا , لولا فضل الله ورحمته , صور لهم عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان . وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم . وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير: يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ; ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر . ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ; ولكن الله يزكي من يشاء , والله سميع عليم . . وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبع المؤمنون خطاه , وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان وأن يسلكوا طريقا غير طريقه المشؤوم ! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن , ويرتجف لها وجدانه , ويقشعر لها خياله ! ورسم هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في نفوسهم اليقظة والحذر والحساسية: (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر). . وحديث الإفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه المؤمنين الذين خاضوا فيه . وهو نموذج منفر شنيع . وإن الإنسان لضعيف , معرض للنزعات , عرضة للتلوث . إلا أن يدركه فضل الله ورحمته . حين يتجه إلى الله , ويسير على نهجه . ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا . ولكن الله يزكي من يشاء . . فنور الله الذي يشرق في القلب يطهره ويزكيه . ولولا فضل الله ورحمته لم يزك من أحد ولم يتطهر . والله يسمع ويعلم , فيزكي من يستحق التزكية , ويطهر من يعلم فيه الخير والاستعداد (والله سميع عليم). . وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض - كما يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب -: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ; وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم ? والله غفور رحيم . . نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة . وقد عرف أنه مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه . وهو قريبه . وهو من فقراء المهاجرين . وكان أبو بكر - رضي الله عنه - ينفق عليه . فآلى على نفسه لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا . نزلت هذه الآية تذكر أبا بكر , وتذكر المؤمنين , بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم . فليأخذوا أنفسهم - بعضهم مع بعض - بهذا الذي يحبونه , ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه , إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا . . وهنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية , التي تطهرت بنور الله . أفق يشرق في نفس أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أبي بكر الذي مسه حديث الإفك في أعماق قلبه , والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه . فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو ; وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم ?)حتى يرتفع على الآلام , ويرتفع على مشاعر الإنسان , ويرتفع على منطق البيئة . وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله . فإذا هو يلبي داعي الله في طمأنينة وصدق يقول:بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي . ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه , ويحلف:والله لا أنزعها منه أبدا . ذلك في مقابل ما حلف:والله لا أنفعه بنافعة أبدا . بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير , ويغسله من أوضار المعركة , ليبقى أبدا نظيفا طاهرا زكيا مشرقا بالنور . . الدرس الخامس:23 - 25 وعيد من يقذفون المؤمنات الغافلات ذلك الغفران الذي يذكر الله المؤمنين به . إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا . فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار , كأمثال ابن أبي فلا سماحة ولا عفو . ولو أفلتوا من الحد في الدنيا , لأن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة . ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة , ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق , ويعلمون أن الله هو الحق المبين). . ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها ; وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارات , غير آخذات حذرهن من الرمية . وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئا , لأنهن لم يأتين شيئا يحذرنه ! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة . ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة . لعنة الله لهم . وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة . ثم يرسم ذلك المشهد الأخاذ: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم). . فإذا بعضهم يتهم بعضا بالحق , إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالإفك ! وهي مقابلة في المشهد مؤثرة , على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني . (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق). . ويجزيهم جزاءهم العدل , ويؤدي لهم حسابهم الدقيق . ويومئذ يستيقنون مما كانوا يستريبون: (ويعلمون أن الله هو الحق المبين). . الدرس السادس:26 الصالحات للصالحين وبراءة عائشة ويختم الحديث عن حادث الإفك ببيان عدل الله في اختياره الذي ركبه في الفطرة , وحققه في واقع الناس . وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة , وأن تمتزج النفس الطيبة بالنفس الطيبة . وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج . وما كان يمكن أن تكون عائشة - رضي الله عنها - كما رموها , وهي مقسومة لأطيب نفس على ظهر هذه الأرض: الخبيثات للخبيثين , والخبيثون للخبيثات . والطيبات للطيبين , والطيبون للطيبات . أولئك مبرأون مما يقولون , لهم مغفرة ورزق كريم . . ولقد أحبت نفس رسول الله [ ص ] عائشة حبا عظيما . فما كان يمكن أن يحببها الله لنبيه المعصوم , إن لم تكن طاهرة تستحق هذا الحب العظيم . أولئك الطيبون والطيبات (مبرأون مما يقولون)بفطرتهم وطبيعتهم , لا يلتبس بهم شيء مما قيل . (لهم مغفرة ورزق كريم). . مغفرة عما يقع منهم من أخطاء . ورزق كريم . دلالة على كرامتهم عند ربهم الكريم . بذلك ينتهي حديث الإفك . ذلك الحادث الذي تعرضت فيه الجماعة المسلمة لأكبر محنة . إذ كانت محنة الثقة في طهارة بيت الرسول , وفي عصمة الله لنبيه أن يجعل في بيته إلا العنصر الطاهر الكريم . وقد جعلها الله معرضا لتربية الجماعة المسلمة , حتى تشف وترف ; وترتفع إلى آفاق النور . . في سورة النور . . الوحدة الثانية:27 - 34 الموضوع:وسائل الوقاية من الزنا:الإستئذان وغض البصر والتزويج موضوع الوحدة إن الإسلام - كما أسلفنا - لا يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف , إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية . وهو لا يحارب الدوافع الفطرية . ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة . والفكرة السائدة في منهج التربية الإسلامية في هذه الناحية , هي تضييق فرص الغواية , وإبعاد عوامل الفتنة ; وأخذ الطريق على أسباب التهييج والإثارة . مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة . . ومن هنا يجعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها ; فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول , خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت , وعلى عورات أهلها وهم غافلون . . ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء , وعدم التبرج بالزينة لإثارة الشهوات . ومن هنا كذلك ييسر الزواج للفقراء من الرجال والنساء . فالإحصان هو الضمان الحقيقي للاكتفاء . . وينهى عن تعريض الرقيق للبغاء كي لا تكون الفعلة سهلة ميسرة , فتغري بيسرها وسهولتها بالفحشاء . فلننظر نظرة تفصيلية في تلك الضمانات الواقية التي يأخذ بها الإسلام . الدرس الأول:27 29 الإستئذان للدخول في البيوت (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها , ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون . فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم . وإن قيل لكم:ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم , والله بما تعملون عليم . ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم . والله يعلم ما تبدون وما تكتمون). . لقد جعل الله البيوت سكنا , يفيء إليها الناس ; فتسكن أرواحهم ; وتطمئن نفوسهم ; ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم , ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب ! والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم . وفي الوقت الذي يريدون , وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس . ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان , يجعل أعينهم تقع على عورات ; وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات ; وتهيى ء الفرصة للغواية , الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة , التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة , تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار ; وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات . ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوما , فيدخل الزائر البيت , ثم يقول:لقد دخلت ! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد . وكان يقع أن تكون المرأة عاريةأو مكشوفة العورة , هي أو الرجل , وكان ذلك يؤذي ويجرح , ويحرم البيوت أمنها وسكينتها ; كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة , حين تقع العين على ما يثير . من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي . أدب الاستئذان على البيوت , والسلام على أهلها لإيناسهم . وإزالة الوحشة من نفوسهم , قبل الدخول: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها). . ويعبر عن الاستئذان بالاستئناس - وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان , ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق , فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به , واستعدادا لاستقباله . وهي لفتة دقيقة لطيفة , لرعاية أحوال النفوس , ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم , وما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار . وبعد الاستئذان إما أن يكون في البيوت أحد من أهلها أو لا يكون . فإن لم يكن فيها أحد فلا يجوز اقتحامها بعد الاستئذان , لأنه لا دخول بغير إذن: (فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم). . وإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول ; فإنما هو طلب للإذن . فإن لم يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك . ويجب الانصراف دون تلكؤ ولا انتظار: (وإن قيل لكم:ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم). . ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة , ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم , أو النفرة منكم . فللناس أسرارهم وأعذارهم . ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم في كل حين . (والله بما تعملون عليم). . فهو المطلع على خفايا القلوب , وعلى ما فيها من دوافع ومثيرات . فأما البيوت العامة كالفنادق والمثاوى والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن , فلا حرج في الدخول إليها بغير استئذان , دفعا للمشقة ما دامت علة الاستئذان منتفية: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم). . (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون). . فالأمر معلق باطلاع الله على ظاهركم وخافيكم ; ورقابته لكم في سركم وعلانيتكم . وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب , وامتثالها لذلك الأدب العالي , الذي يأخذها الله به في كتابه , الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل في كل اتجاه . إن القرآن منهاج حياة . فهو يحتفل بهذه الجزئية من الحياة الاجتماعية , ويمنحها هذه العناية , لأنه يعالج الحياة كليا وجزئيا , لينسق بين أجزائها وبين فكرتها الكلية العليا بهذا العلاج . فالاستئذان على البيوت يحقق للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكنا . ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة , والضيق بالمباغتة , والتأذي بانكشاف العورات . . وهي عورات كثيرة , تعني غير ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه اللفظة . . إنها ليست عورات البدن وحدها . إنما تضاف إليها عورات الطعام , وعورات اللباس , وعورات الأثاث , التي قد لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل وإعداد . وهي عورات المشاعر والحالات النفسية ,فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر , أو يغضب لشأن مثير , أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء ?! ولكن كل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الأدب الرفيع , أدب الاستئذان ; ويرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة , التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات ; وطالما نشأت عنها علاقات ولقاءات , يدبرها الشيطان , ويوجهها في غفلة عن العيون الراعية , والقلوب الناصحة , هنا أو هناك ! ولقد وعاها الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه الآيات . وبدأ بها رسول الله - عليه الصلاة والسلام .
أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي عمر الأوزاعي - بإسناده - عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال:زارنا رسول الله [ ص ] في منزلنا فقال:" السلام عليكم ورحمة الله " فرد سعد ردا خفيا . قال قيس:فقلت:ألا تأذن لرسول الله [ ص ] ? فقال:دعه يكثر علينا من السلام . فقال رسول الله [ ص ] " السلام عليكم ورحمة الله " . فرد سعد ردا خفيا . ثم قال رسول الله [ ص ]:" السلام عليكم ورحمة الله " . ثم رجع رسول الله [ ص ] وأتبعه سعد فقال:يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام - فقال:فانصرف معه رسول الله [ ص ] وأمر له سعد بغسل فاغتسل ; ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس , فاشتمل بها , ثم رفع رسول الله [ ص ] يديه , وهو يقول:" اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة " . . . الخ الحديث . وأخرج أبو داود - بإسناده - عن عبد الله بن بشر قال:كان رسول الله [ ص ] إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ; ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر , ويقول:" السلام عليكم . السلام عليكم " . ذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور . وروى أبو داود كذلك - بإسناده - عن هذيل قال:جاء رجل - قال عثمان:سعد - فوقف على باب النبي [ ص ] يستأذن . فقام على الباب - قال عثمان:مستقبل الباب - فقال له النبي [ ص ]:" هكذا عنك - أو هكذا - فإنما الاستئذان من النظر . وفي الصحيحين عن رسول الله [ ص ] أنه قال:" لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن , فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح " . وروى أبو داود - بإسناده - عن ربعي قال:أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله [ ص ] وهو في بيته فقال:أألج ? فقال النبي [ ص ] لخادمه:" اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان , فقل له:قل:السلام عليكم . أأدخل ? " فسمعها الرجل فقال:السلام عليكم . أأدخل ? فأذن له النبي [ ص ] فدخل . وقال هشيم:قال مغيرة:قال مجاهد:جاء ابن عمر من حاجة , وقد آذاه الرمضاء ; فأتى فسطاط امرأةمن قريش , فقال:السلام عليكم . أأدخل ? قالت:ادخل بسلام . فأعاد . فأعادت . وهو يراوح بين قدميه . قال:قولي:ادخل . قالت:ادخل . فدخل ! "وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس - رضي الله عنهما , قال:قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد ? قال:نعم . فرددت عليه ليرخص لي فأبى , فقال:تحب أن تراها عريانة ? قلت:لا . قال:فاستأذن . قال:فراجعته أيضا . فقال:أتحب أن تطيع الله ? قال:قلت:نعم . قال فاستأذن " . وجاء في الصحيح عن رسول الله [ ص ] أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا . . وفي رواية:ليلا يتخونهم . وفي حديث آخر أن رسول الله [ ص ] قدم المدينة نهارا , فأناخ بظاهرها وقال:" انتظروا حتى ندخل عشاء - يعني آخر النهار - حتى تمتشط الشعثة , وتستحد المغيبة " . إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حس رسول الله [ ص ] وصحابته , بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء , المشرق بنور الله . ونحن اليوم مسلمون , ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت . وإن الرجل ليهجم على أخيه في بيته , في أية لحظة من لحظات الليل والنهار , يطرقه ويطرقه ويطرقه فلا ينصرف أبدا حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له . وقد يكون في البيت هاتف "تليفون" يملك أن يستأذن عن طريقه , قبل أن يجيء , ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب ; ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان , وعلى غير موعد . ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت - وقد جاء - مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار ولا انتظار ! ونحن اليوم مسلمون , ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام . فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئا ! ونطرقهم في الليل المتأخر , فإن لم يدعونا إلى المبيت عندهم وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئا ! دون أن نقدر أعذارهم في هذا وذاك ! ذلك أننا لا نتأدب بأدب الإسلام ; ولا نجعل هوانا تبعا لما جاء به رسول الله [ ص ] إنما نحن عبيد لعرف خاطى ء , ما أنزل الله به من سلطان ! ونرى غيرنا ممن لم يعتنقوا الإسلام , يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون أدبا لنا في النفس , وتقليدا من تقاليدنا في السلوك . فيعجبنا ما نراهم عليه أحيانا ; ونتندر به أحيانا . ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل , فنفيء إليه مطمئنين . تفسير سورة النور لسيد قطب
الدرس الثاني:30 - 31 غض البصر بين المؤمنين والمؤمنات وحدود العورة عند النساء وبعد الانتهاء من أدب الاستئذان على البيوت - وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر واتقاء أسباب الفتنة العابرة - يأخذ على الفتنة الطريق كي لا تنطلق من عقالها , بدافع النظر لمواضع الفتنة المثيرة , وبدافع الحركة المعبرة , الداعية إلى الغواية: (قل للمؤمنين:يغضوا من أبصارهم , ويحفظوا فروجهم , ذلك أزكى لهم . إن الله خبير بما يصنعون .)(وقل للمؤمنات:يغضضن من أبصارهن , ويحفظن فروجهن , ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ; وليضربن بخمرهن على جيوبهن , ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن , أو آبائهن , أو آباء بعولتهن , أو أبنائهن , أو أبناء بعولتهن , أو إخوانهن , أو بني إخوانهن , أو بني أخواتهن , أو نسائهن , أو ما ملكت أيمانهن , أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال , أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء . ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن . وتوبوا إلى الله جميعا - أيها المؤمنون - لعلكم تفلحون). . إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف , لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة , ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين . فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولايرتوي . والنظرة الخائنة , والحركة المثيرة , والزينة المتبرجة , والجسم العاري . . . كلها لا تصنع شيئا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون ! وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة . فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة ! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب !!! وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة , وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين , سليما , وبقوته الطبيعية , دون استثارة مصطنعة , وتصريفه في موضعه المأمون النظيف . ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة , والحديث الطليق , والاختلاط الميسور , والدعابة المرحة بين الجنسين , والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة . . شاع أن كل هذا تنفيس وترويح , وإطلاق للرغبات الحبيسة , ووقاية من الكبت , ومن العقد النفسية , وتخفيف من حدة الضغط الجنسي , وما وراءه من اندفاع غير مأمون . . . الخ . شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان , والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين ! - وبخاصة نظرية فرويد - ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية , رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتا من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية , ما يكذبها وينقضها من الأساس . نعم . شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي , والاختلاط الجنسي , بكل صوره وأشكاله , أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها . إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع ! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها لا تنشأ إلا من الحرمان , وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب , شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه . . ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد ; وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء ! وللأجسام العارية في الطريق , وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة , واللفتات الموقظة . وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد . مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود . إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي ; لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض ; وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها . فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود . وإثارته في كل حين تزيد من عرامته ; وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة . فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة . وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة ! والنظرة تثير . والحركة تثير . والضحكة تثير . والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير . والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية , ثم يلبى تلبية طبيعية . . وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام . مع تهذيب الطبع , وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة , غير تلبية دافع اللحم والدم , فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد ! وفي الآيتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين: (قل للمؤمنين:يغضوا من أبصارهم , ويحفظوا فروجهم . ذلك أزكى لهم . إن الله خبير بما يصنعون). . وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي , ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام . كما أن فيه إغلاقا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية . ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم ! وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر . أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة , ويقظة الرقابة , والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى . ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة ; بوصفهما سببا ونتيجة ; أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع . كلتاهما قريب من قريب . (ذلك أزكى لهم). . فهو أطهر لمشاعرهم ; وأضمن لعدم تلوثها بالانفعالات الشهوية في غير موضعها المشروع النظيف , وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط . وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها وأعراضها , وجوها الذي تتنفس فيه . والله هو الذي يأخذهم بهذه الوقاية ; وهو العلم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري , الخبير بحركات نفوسهم وحركات جوارحهم: (إن الله خبير بما يصنعون). . (وقل للمؤمنات:يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن). . فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة , أو الهاتفة المثيرة , تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال . ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب , يلبي داعي الفطرة في جو نظيف , لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة ! (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها). . والزينة حلال للمرأة , تلبية لفطرتها . فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة , وأن تبدو جميلة . والزينة تختلف من عصر إلى عصر ; ولكن أساسها في الفطرة واحد , هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله , وتجليته للرجال . والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية ; ولكنه ينظمها ويضبطها , ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد - هو شريك الحياة - يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه . ويشترك معه في الاطلاع على بعضها , المحارم والمذكورون في الآية بعد , ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع . فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين , فيجوز كشفه . لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله [ ص ] لأسماء بنت أبي بكر:" يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض , لم يصلح أن يرى منها إلا هذا - وأشار إلى وجهه وكفيه " . (وليضربن بخمرهن على جيوبهن). . والجيب فتحة الصدر في الثوب . والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر . ليداري مفاتنهن , فلا يعرضها للعيون الجائعة ; ولا حتى لنظرة الفجاءة , التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها , ولكنها قد تترك كمينا في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة ! إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء ! والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي . وقلوبهن مشرقة بنور الله , لم يتلكأن في الطاعة , على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال . وقد كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة ! - تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء . وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها , وأقرطة أذنيها . فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن , ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها , كن كما قالت عائشة رضي الله عنها -:" يرحم الله نساء المهاجرات الأول . لما أنزل الله: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)شققن مروطهن فاختمرن بها . . وعن صفية - بنت شيبة قالت:بينما نحن عند عائشة . قالت:فذكرن نساء قريش وفضلهن . فقالت عائشة - رضي الله عنها - إن لنساء قريش لفضلا . وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار , وأشد تصديقا لكتاب الله , ولا إيمانا بالتنزيل . لما نزلت في سورة النور: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ; ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته , وعلى كل ذي قرابته . فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل , فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه . فأصبحن وراء رسول الله [ ص ] معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان " . لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي , وطهر إحساسه بالجمال ; فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب , بل الطابع الإنساني المهذب . . وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان ; مهما يكن من التناسق والاكتمال . فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف , الذي يرفع الذوق الجمالي , ويجعله لائقا بالإنسان , ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال . وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات . على الرغم من هبوط الذوق العام , وغلبة الطابع الحيواني عليه ; والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة ! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات , في مجتمع يتكشف ويتبرج , وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان ! هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة . . ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة . فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم: الآباء والأبناء , وآباء الأزواج وأبناؤهم , والإخوة وأبناء الإخوة , وأبناء الأخوات . . كما يستثني النساء المؤمناتأو نسائهن)فأما غير المسلمات فلا . لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن , وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها . وفي الصحيحين:" لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها " . . أما المسلمات فهن أمينات , يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن جسم امرأة مسلمة وزينتها . . ويستثنيكذلك (ما ملكت أيمانهن)قيل من الإناث فقط , وقيل:ومن الذكور كذلك . لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته . والأول أولى , لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان , مهما يكن له من وضع خاص ; في فترة من الزمان . . ويستثني (التابعين غير أولي الإربة من الرجال). . وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون . . وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة . لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء . . ويستثني (الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء). . وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس . فإذا ميزوا , وثار فيهم هذا الشعور - ولو كانوا دون البلوغ - فهم غير داخلين في هذا الاستثناء . وهؤلاء كلهم - عدا الأزواج - ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها , إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة . لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء . فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء . ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء , فقد مضت الآية تنهي المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة , وتهيج الشهوات الكامنة , وتوقظ المشاعر النائمة . ولو لم يكشفن فعلا عن الزينة: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن). . وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها . فإن الخيال ليكون أحيانا أقوى في إثارة الشهوات من العيان . وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها , أو حليها , أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته . كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم , أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم - وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم - وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى العطر من بعيد , قد يثير حواس رجال كثيرين , ويهيج أعصابهم , ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها ردا . والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله . لأن منزله هو الذي خلق , وهو الذي يعلم من خلق . وهو اللطيف الخبير . وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله ; ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون). بذلك يثير الحساسية برقابة الله , وعطفه ورعايته , وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق , الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله , وبتقواه . . الدرس الثالث:32 - 33 الحث على التزويج والمنع من البغاء وإلى هنا كان علاج المسألة علاجا نفسيا وقائيا . ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة , لا بد من مواجهتها بحلول واقعية إيجابية . . هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج , والمعاونة عليه ; مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة الجنسية أو إغلاقها نهائيا: وأنكحوا الأيامى منكم , والصالحين من عبادكم وإمائكم . إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله . والله واسع عليم . وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله . والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم - إن علمتم فيهم خيرا - وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ; ولا تكرهوا فتيانكم على البغاء - إن أردن تحصنا - لتبتغوا عرض الحياة الدنيا . ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم . . إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية . وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة . فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج , لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها . والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت , وتحصين النفوس . والإسلام نظام متكامل , فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها , وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء . فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدا غير مضطر .
لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال: (وأنكحوا الأيامى منكم , والصالحين من عبادكم وإمائكم . إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). . والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين . . والمقصود هنا الأحرار . وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك: (والصالحين من عبادكم وإمائكم). وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). . وهذا أمر للجماعة بتزويجهم . والجمهور على أن الأمر هنا للندب . ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله [ ص ] لم يزوجوا . ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم . ونحن نرى أن الأمر للوجوب , لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج ; ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج , وتمكينهم من الإحصان , بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية , وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة . وهو واجب . ووسيلة الواجب واجبة . وينبغي أن نضع في حسابنا - مع هذا - أن الإسلام - بوصفه نظاما متكاملا - يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجا أساسيا ; فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب , وتحصيل الرزق , وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال . ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات . . فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله . وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقا على الدولة واجبا للأفراد . أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام . فإذا وجد في المجتمع الإسلامي - بعد ذلك - أيامى فقراء وفقيرات , تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج , فعلى الجماعة أن تزوجهم . وكذلك العبيد والإماء . غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين . ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقا عن التزويج - متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالا ونساء - فالرزق بيد الله . وقد تكفل الله بإغنائهم , إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). وقال رسول الله [ ص ]:" ثلاثة حق على الله عونهم:المجاهد في سبيل الله , والمكاتب الذي يريد الأداء , والناكح الذي يريد العفاف " . وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله). . (والله واسع عليم). . لا يضيق على من يبتغي العفة , وهو يعلم نيته وصلاحه . وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية ; فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج ; ولو كان عاجزا من ناحية المال . والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الإحصان . ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي , وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية . وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين . لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة . حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله , فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته . وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم . إن علمتم فيهم خيرا). . وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب . ونحن نراه الأولى ; فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية . ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له , وأجر عمله له , ليوفي منه ما كاتب عليه ; ويجب له نصيب في الزكاة: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم). ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا . والخير هو الإسلام أولا . ثم هو القدرة على الكسب . فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره . وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش , ويكسب ما يقيم أوده . والإسلام نظام تكافل . وهو كذلك نظام واقع . فليس المهم أن يقال:إن الرقيق قد تحرر . وليست العنوانات هي التي تهمه . إنما تهمه الحقيقة الواقعة . ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه ; فلم يكن كلا على الناس ; ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها , ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى , وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد ; بما هو أشد وأنكى . وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة , احتراف بعض الرقيق للبغاء . وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني ; وجعل عليها ضريبة يأخذها منها - وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم - فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة ; وخص هذه الحالة بنص خاص: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء . إن أردن تحصنا . لتبتغوا عرض الحياة الدنيا . ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم). فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر , ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث . ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة , بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه . قال السدي:أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول , رأس المنافقين , وكانت له جارية تدعى معاذة . وكان إذ نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها , إرادة الثواب منه , والكرامة له . فأقبلت الجارية إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فشكت إليه ذلك ; فذكره أبو بكر للنبي [ ص ] فأمره بقبضها . فصاح عبد الله بن أبي:من يعذرنا من محمد ? يغلبنا على مملوكتنا ! فأنزل الله فيهم هذا . هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء - وهن يردن العفة - ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية , وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي . ذلك أن وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولته ; ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف . ولا عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن , يحمي البيوت الشريفة ; لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج . أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض المصونة , إن لم تجد هذا الكلأ المباح ! إن في التفكير على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج . فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة . وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج . فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجا خاصا . . وبذلك لا تحتاج إلى البغاء , وإلى إقامة مقاذر إنسانية , يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس , فيلقي فيها بالفضلات , تحت سمع الجماعة وبصرها ! إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج , بحيث لا تخرج مثل هذا النتن . ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة , في صور آدمية ذليلة . وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف , الذي يصل الأرض بالسماء , ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله . الدرس الرابع:34 طبيعة هذا القرآن ويعقب على هذا الشوط بصفة القرآن التي تناسب موضوعه وجوه: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات , ومثلا من الذين خلوا من قبلكم , وموعظة للمتقين). . فهو آيات مبينات , لا تدع مجالا للغموض والتأويل , والانحراف عن النهج القويم . وهو عرض لمصائر الغابرين الذين انحرفوا عن نهج الله فكان مصيرهم النكال . وهو موعظة للمتقين الذين تستشعر قلوبهم رقابة الله فتخشى وتستقيم . والأحكام التي تضمنها هذا الشوط تتناسق مع هذا التعقيب , الذي يربط القلوب بالله , الذي نزل هذا القرآن . . الوحدة الثالثة:35 - 45 الموضوع:نور الله وبيوت الله وتسبيح المخلوقات لله وخسارة أعمال الكفار الدرس الأول:35 - 38 نور الله وبيوت الله وصفات جنود الله في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري . ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى آفاق النور . عالج عرامة اللحم والدم , وشهوة العين والفرج , ورغبة التجريح والتشهير , ودفعة الغضب والغيظ . وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة , وأن تشيع في القول . عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف . وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات . وعالجها بالوسائل الواقية:بالاستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة , والنهي عن مثيرات الفتنة , وموقظات الشهوة . ثم بالإحصان , ومنع البغاء , وتحرير الرقيق . . كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم , ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق . وفي أعقاب حديث الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ , ومن اضطراب في المقاييس , وقلق في النفوس . فإذا نفس محمد - رسول الله [ ص ] - مطمئنة هادئة . وإذا نفس عائشة - رضي الله عنها - قريرة راضية . وإذا نفس أبي بكر - رضي الله عنه - سمحة صافية . وإذا نفس صفوان بن المعطل - رضي الله عنه - قانعة بشهادة الله وتبرئته . وإذا نفوس المسلمين آيبة تائبة . وقد تكشف لها ما كانت تخبط فيه من التيه . فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته . . بهذا التعليم . وهذا التهذيب . وهذا التوجيه . عالج الكيان البشري , حتى أشرق بالنور ; وتطلع إلى الأفق الوضيء ; واستشرق النور الكبير في آفاق السماوات والأرض , وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل الغامر في عالم كله إشراق , وكله نور: (الله نور السماوات والأرض). . وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء , فيغمر الكون كله , ويفيض على المشاعر والجوارح , وينسكب في الحنايا والجوانح ; وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر ; وحتى تعانقهوترشفه العيون والبصائر ; وحتى تنزاح الحجب , وتشف القلوب , وترف الأرواح . ويسبح كل شيء في الفيض الغامر , ويتطهر كل شيء في بحر النور , ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله , فإذا هو انطلاق ورفرفة , ولقاء ومعرفة , وامتزاج وألفة , وفرح وحبور . وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود , تتصل فيه السماوات بالأرض , والأحياء بالجماد , والبعيد بالقريب ; وتلتقي فيه الشعاب والدروب , والطوايا والظواهر , والحواس والقلوب . . (الله نور السماوات والأرض). . النور الذي منه قوامها ومنه نظامها . . فهو الذي يهبها جوهر وجودها , ويودعها ناموسها . . ولقد استطاع البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى , عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة - بعد تحطيم الذرة - إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور ! ولا "مادة " لها إلا النور ! فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونيات , تنطلق - عند تحطيمها - في هيئة إشعاع قوامه هو النور ! فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون . كان يدركها كلما شف ورف , وانطلق إلى آفاق النور . ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله [ ص ] ففاض بها وهو عائد من الطائف , نافض كفيه من الناس , عائذ بوجه ربه يقول:" أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات , وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة " . وفاض بها في رحلة الإسراء والمعراج . فلما سألته عائشة:هل رأيت ربك ? قال . " نور . أنى أراه " . ولكن الكيان البشري لا يقوى طويلا على تلقي ذلك الفيض الغامر دائما , ولا يستشرف طويلا ذلك الأفق البعيد . فبعد أن جلا النص هذا الأفق المترامي , عاد يقارب مداه , ويقربه إلى الإدراك البشري المحدود , في مثل قريب محسوس:
مثل نوره كمشكاة فيها مصباح . المصباح في زجاجة . الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية , يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار . نور على نور . . وهو مثل يقرب للإدراك المحدود صورة غير المحدود ; ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس , حين يقصر عن تملي الأصل . وهو مثل يقرب للإدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير . ومن عرض السماوات والأرض إلى المشكاة . وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة , يوضع فيها المصباح , فتحصر نوره وتجمعه , فيبدو قويا متألقا: (كمشكاة فيها مصباح). . (المصباح في زجاجة). . تقيه الريح , وتصفي نوره , فيتألق ويزداد . . (الزجاجة كأنها كوكب دري). . فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة . . هنا يصل بين المثل والحقيقة . بين النموذج والأصل . حين يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير , كي لا ينحصر التأمل في النموذج الصغير , الذي ما جعل إلا لتقريب الأصل الكبير . . وبعد هذه اللفتة يعود إلى النموذج . إلى المصباح: (يوقد من شجرة مباركة زيتونة)ونور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون . ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذا المثل . إنما هو كذلك الظلال المقدسة التي تلقيها الشجرة المباركة . ظلال الوادي المقدس في الطور , وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب . وفي القرآن إشارة لها وظلال حولهاوشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين). وهي شجرة معمرة , وكل ما فيها مما ينفع الناس . زيتها وخشبهاوورقها وثمرها . . ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالأصل الكبير . فهذه الشجرة ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة . إنما هي مثل مجرد للتقريب: (لا شرقية ولا غربية). . وزيتها ليس زيتا من هذا المشهود المحدود , إنما هو زيت آخر عجيب: (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار). . فهو من الشفافية بذاته , ومن الإشراق بذاته , حتى ليكاد يضيء بغير احتراق ; (ولو لم تمسسه نار). . (نور على نور). . وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف ! إنه نور الله الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والأرض . النور الذي لا ندرك كنهه ولا مداه . إنما هي محاولة لوصل القلوب به , والتطلع إلى رؤياه: (يهدي الله لنوره من يشاء). . ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه . فهو شائع في السماوات والأرض , فائض في السماوات والأرض . دائم في السماوات والأرض . لا ينقطع , ولا يحتبس , ولا يخبو . فحيثما توجه إليه القلب رآه . وحيثما تطلع إليه الحائر هداه . وحيثما اتصل به وجد الله . إنما المثل الذي ضربه الله لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك , وهو العليم بطاقة البشر: (ويضرب الله الأمثال للناس , والله بكل شيء عليم). . ذلك النور الطليق , الشائع في السماوات والأرض الفائض في السماوات والأرض , يتجلى ويتبلور في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله , تتطلع إليه وتذكره وتخشاه , وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه , يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة . يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار . ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله , والله يرزق من يشاء بغير حساب). . وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا , على طريقة التناسق القرآنية في عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه أو المتقارب . وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة , والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله . تلك البيوت (أذن الله أن ترفع)- وإذن الله هو أمر للنفاذ - فهي مرفوعة قائمة , وهي مطهرة رفيعة . يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والأرض . وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء . وتتهيأ بالرفعة والارتفاع لأن يذكر فيها اسم اللهويذكر فيها اسمه). وتتسق معها القلوب الوضيئة الطاهرة , المسبحة الواجفة , المصلية الواهبة . قلوب الرجال الذين (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة). . والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء . ولكنهم مع شغلهم بهما لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة , وأداء حق العباد في الزكاة: (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار). . تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب . وهم يخافون ذلك اليوم فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله . وهم مع هذا الخوف يعلقون رجاءهم بثواب الله: (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا , ويزيدهم من فضله). . ورجاؤهم لن يخيب في فضل الله: (والله يرزق من يشاء بغير حساب)من فضله الذي لا حدود له ولا قيود . الدرس الثاني:39 - 40 خسارة أعمال الكافر في مقابل ذلك النور المتجلي في السماوات والأرض , المتبلور في بيوت الله , المشرق في قلوب أهل الإيمان . . يعرض السياق مجالا آخر . مجالا مظلما لا نور فيه . مخيفا لا أمن فيه . ضائعا لا خير فيه . ذلك هو مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة , يحسبه الظمآن ماء , حتى إذا جاءه لم يجده شيئا , ووجد الله عنده فوفاه حسابه . والله سريع الحساب . أو كظلمات في بحر لجي , يغشاه موج من فوقه موج , من فوقه سحاب . ظلمات بعضها فوق بعض , إذا أخرج يده لم يكد يراها . ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور). . والتعبير يرسم لحال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين , حافلين بالحركة والحياة . في المشهد الأول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة , يلتمع التماعا كاذبا , فيتبعه صاحبه الظامى ء , وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك . . وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة . فهذا السائر وراء السراب , الظامىء الذي يتوقع الشراب , الغافل عما ينتظره هناك . . يصل . فلا يجد ماء يرويه , إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال , المرعبة التي تقطع الأوصال , وتورث الخبالووجد الله عنده)! الله الذي كفر به وجحده , وخاصمه وعاداه . وجده هنالك ينتظره ! ولو وجد في هذه المفاجأة خصما له من بني البشر لروعه , وهو ذاهل غافل على غير استعداد . فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار ? (فوفاه حسابه). . هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة , (والله سريع الحساب). . تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع ! وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب ; ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي . موج من فوقه موج . من فوقه سحاب . وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض , حتى ليخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام ! إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون . وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى . ومخافة لا أمن فيها ولا قرار . . (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور). . ونور الله هدى في القلب ; وتفتح في البصيرة ; واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض ; والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض . فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة لا انكشاف لها , وفي مخالفة لا أمن فيها , وفي ضلال لا رجعة منه . ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب ; لأنه لا عمل بغير عقيدة , ولا صلاح بغير إيمان . إن هدى الله هو الهدى . وإن نور الله هو النور . الدرس الثالث:41 - 42 تسبيح المخلوقات لله وملكية الله للوجود ذلك مشهد الكفر والضلال والظلام في عالم الناس , يتبعه مشهد الإيمان والهدى والنور في الكون الفسيح . مشهد يتمثل فيه الوجود كله , بمن فيه وما فيه , شاخصا يسبح لله:إنسه وجنه , أملاكه وأفلاكه , أحياؤه وجماده . . وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه , في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتملاه: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض , والطير صافات . كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون). . إن الإنسان ليس مفردا في هذا الكون الفسيح ; فإن من حوله , وعن يمينه وعن شماله , ومن فوقه ومن تحته ; وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال . . إخوان له من خلق الله , لهم طبائع شتى , وصور شتى , وأشكال شتى . ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله , ويتوجهون إليه , ويسبحون بحمده: (والله عليم بما يفعلون). . والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر فيما حوله من صنع الله , وإلى من حوله من خلق الله في السماوات والأرض , وهم يسبحون بحمده وتقواه ; ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم يراه , فلا يثير انتباهه ولا يحرك قلبه لطول ما يراه . ذلك مشهد الطير صافات أرجلها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد اللهكل قد علم صلاته وتسبيحه). . والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه ; وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح والصلاة . وإن الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجها كله إلى خالقه , مسبحا بحمده , قائما بصلاته ; وإنه لكذلك في فطرته , وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه . وإن الإنسان ليدرك - حين يشف - هذا المشهد ممثلا في حسه كأنه يراه ; وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح لله . وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود صلاته ونجواه . . كذلك كان محمد بن عبد الله - صلاة الله وسلامه عليه - إذا مشى سمع تسبيح الحصى تحت قدميه . وكذلك كان داود - عليه السلام - يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير . (ولله ملك السماوات والأرض , وإلى الله المصير). . فلا اتجاه إلا إليه , ولا ملجأ من دونه , ولا مفر من لقائه , ولا عاصم من عقابه , وإلى الله المصير . الدرس الرابع:43 مشهد المطر والسحاب ومشهد آخر من مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين ; وفيها متعة للنظر , وعبرة للقلب , ومجال للتأمل في صنع الله وآياته , وفي دلائل النور والهدى والإيمان: ألم تر أن الله يزجي سحابا , ثم يؤلف بينه , ثم يجعله ركاما , فترى الودق يخرج من خلاله . وينزل من السماء من جبال فيها من برد , فيصيب به من يشاء , ويصرفه عمن يشاء , يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار . . والمشهد يعرض على مهل وفي إطالة , وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع . كل أولئك لتؤدي الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه , وبعثه إلى التأمل والعبرة , وتدبر ما وراءها من صنع الله . إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان . ثم تؤلف بينه وتجمعه , فإذا هو ركام بعضه فوق بعض . فإذا ثقل خرج منه الماء , والوبل الهاطل , وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة , فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة . . ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها , فإذا المشهد مشهد الجبال حقا , بضخامتها , ومساقطها , وارتفاعاتها وانخفاضاتها . وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس , إلا بعد ما ركبوا الطائرات . وهذه الجبال مسخرة بأمر الله , وفق ناموسه الذي يحكم الكون ; ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء , ويصرفه عمن يشاء . . وتكملة المشهد الضخميكاد سنا برقه يذهب بالأبصار)ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض , على طريقة التناسق في التصوير . الدرس الخامس:44 تقليب الليل والنهار ثم مشهد كوني ثالث:مشهد الليل والنهار: (يقلب الله الليل والنهار . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار). . والتأمل في تقلب الليل والنهار بهذا النظام الذي لا يختل ولا يفتر يوقظ في القلب الحساسية وتدبر الناموس الذي يصرف هذا الكون والتأمل في صنع الله . والقرآن يوجه القلب إلى هذه المشاهد التي ذهبت الألفة بوقعها المثير ; ليواجه القلب هذا الكون دائما بحس جديد , وانفعال جديد . فعجيبة الليل والنهار كم شاقت القلب البشري , وهو يتأملها أول مرة . وهي هي لم تتغير ; ولم تفقد جمالها وروعتها . إنما القلب البشري هو الذي صدىء وهمد , فلم يعد يخفق لها . وكم ذا نفقد من حياتنا , وكم ذا نخسر من جمال هذا الوجود , حين نمر غافلين بهذه الظواهر التي شاقت حسنا وهي جديدة . أو وحسنا هو الجديد ! والقرآن يجدد حسنا الخامد , ويوقظ حواسنا الملول . ويلمس قلبنا البارد . ويثير وجداننا الكليل ; لنرتاد هذا الكون دائما كما ارتدناه أول مرة . نقف أمام كل ظاهرة نتأملها , ونسألها عما وراءها من سر دفين , ومن سحر مكنون . ونرقب يد الله تفعل فعلها في كل شيء من حولنا , ونتدبر حكمته في صنعته , ونعتبر بآياته المبثوثة في تضاعيف الوجود . إن الله - سبحانه - يريد أن يمن علينا , بأن يهبنا الوجود مرة كلما نظرنا إلى إحدى ظواهره ; فاستعدنا نعمة الإحساس بها كأننا نراها أول مرة . فنظل نجد الكون مرات لا تحصى . وكأننا في كل مرة نوهبه من جديد ; ونستمتع به من جديد .
وإن هذا الوجود لجميل وباهر ورائع . وإن فطرتنا لمتوافقة مع فطرته , مستمدة من النبع الذي يستمد منه , قائمة على ذات الناموس الذي يقوم عليه . فالاتصال بضمير هذا الوجود يهبنا أنسا وطمأنينة , وصلة ومعرفة , وفرحة كفرحة اللقاء بالقريب الغائب أو المحجوب ! وإننا لنجد نور الله هناك . فالله نور السماوات والأرض . . نجده في الآفاق وفي أنفسنا في ذات اللحظة التي نشهد فيها هذا الوجود بالحس البصير , والقلب المتفتح , والتأمل الواصل إلى حقيقة التدبير . لهذا يوقظنا القرآن المرة بعد المرة , ويوجه حسنا وروحنا إلى شتى مشاهد الوجود الباهرة , كي لا نمر عليها غافلين مغمضي الأعين , فنخرج من رحلة الحياة على ظهر هذه الأرض بغير رصيد . أو برصيد قليل هزيل . . الدرس السادس:45 إعجاز الله في الكون وفي مخلوقاته ويمضي السياق في عرض مشاهد الكون , واستثارة تطلعنا إليها ; فيعرض نشأة الحياة , من أصل واحد , وطبيعة واحدة , ثم تنوعها , مع وحدة النشأة والطبيعة: (والله خلق كل دابة من ماء . فمنهم من يمشي على بطنه , ومنهم من يمشي على رجلين , ومنهم من يمشي على أربع . يخلق الله ما يشاء . إن الله على كل شيء قدير). . وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة , حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء , قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا , وهو الماء , وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء . ثم تنوعت الأنواع , وتفرعت الأجناس . . ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل . . لا نزيد على هذه الإشارة شيئا . مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية . وهي أن الله خلق الأحياء كلها من الماء . فهي ذات أصل واحد . ثم هي - كما ترى العين - متنوعة الأشكال . منها الزواحف تمشي على بطنها , ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين . ومنها الحيوان يدب على أربع . كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته , لا عن فلتة ولا مصادفة: يخلق الله ما يشاء غير مقيد بشكل ولا هيئة . فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها: (إن الله على كل شيء قدير). وإن تملي الأحياء . وهي بهذا التنوع في الأشكال والأحجام , والأصول والأنواع , والشيات والألوان . وهي خارجة من أصل واحد , ليوحي بالتدبير المقصود , والمشيئة العامدة . وينفي فكرة الفلتة والمصادفة . وإلا فأي فلتة تلك التي تتضمن كل هذا التدبير ; وأية مصادفة تلك التي تتضمن كل هذا التقدير ? إنما هو صنع الله العزيز الحكيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . . الوحدة الرابعة:46 - 57 الموضوع:التقابل بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين والتمكين للمؤمنين موضوع الوحدة بعد تلك الجولة الضخمة في مجالي النور , في مشاهد الكون الكبير . . يعود سياق السورة إلى موضوعهاالأصيل . موضوع الآداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة , لتتطهر قلوبها وتشرق , وتتصل بنور الله في السماوات والأرض . ولقد تناول في الدرس الماضي حديث الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة . وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم , وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض . فالآن في هذا الدرس يتحدث عن المنافقين , الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون . فهم يظهرون الإسلام , ولكنهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله [ ص ] وفي الرضى بحكمه , والطمأنينة إليه . ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم . أولئك الذين وعدهم الله الاستخلاف في الأرض , والتمكين في الدين , والأمن في المقام , جزاء لهم على أدبهم مع الله ورسوله . وطاعتهم لله ورسوله . وذلك على الرغم من عداء الكافرين . وما الذين كفروا بمعجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس المصير . . الدرس الأول:46 - 53 رفض المنافقين حكم الله وقبول المؤمنين ذلك (لقد أنزلنا آيات مبينات . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). . فآيات الله مبينة كاشفة ; تجلو نور الله , وتكشف عن ينابيع هداه . وتحدد الخير والشر , والطيب والخبيث . وتبين منهج الإسلام في الحياة كاملا دقيقا لا لبس فيه ولا غموض ; وتحدد أحكام الله في الأرض بلا شبهة ولا إبهام . فإذا تحاكم الناس إليها فإنما يتحاكمون إلى شريعة واضحة مضبوطة , لا يخشى منها صاحب حق على حقه ; ولا يلتبس فيها حق بباطل , ولا حلال بحرام . (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). . والمشيئة مطلقة لا يقيدها قيد . غير أن الله سبحانه قد جعل للهدى طريقا , ومن وجه نفسه إليه وجد فيه هدى الله ونوره , فاتصل به , وسار على الدرب , حتى يصل - بمشيئة الله - ومن حاد عنه وأعرض فقد النور الهادي ولج في طريق الضلال . حسب مشيئة الله في الهدى والضلال . ومع هذه الآيات المبينات يوجد ذلك الفريق من الناس . فريق المنافقين , الذين كانوا يظهرون الإسلام ولا يتأدبون بأدب الإسلام: (ويقولون:آمنا بالله وبالرسول وأطعنا . ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك . وما أولئك بالمؤمنين . وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين . أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? بل أولئك هم الظالمون). . إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك . والإسلام عقيدة متحركة , لا تطيق السلبية . فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج ; ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع . ومنهج الإسلام الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية ; وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون . مع استحياء الدافع الشعوري الأول في كل حركة , لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل . وهؤلاء كانوا يقولون: (آمنا بالله وبالرسول وأطعنا). . يقولونها بأفواههم , ولكن مدلولها لا يتحقق في سلوكهم . فيتولون ناكصين ; يكذبون بالأعمال ما قالوه باللسان: (وما أولئك بالمؤمنين)فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم . والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها ; ثم يدعها ويمضي . إنما هو تكيف في النفس , وانطباع في القلب , وعمل في الواقع , ثم لا تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير . . ولقد كان هؤلاء الذين يدعون الإيمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله [ ص ] على شريعة الله التي جاء بها: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين). . فلقد كانوا يعلمون أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق , ولا ينحرف مع الهوى , ولا يتأثر بالمودة والشنآن . وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل . ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله [ ص ] ويأبون أن يجيئوا إليه . فأما إذا كانوا أصحاب حق في قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول الله , راضين خاضعين , لأنهم واثقون أنهم سيقضي لهم بحقهم , وفق شريعة الله , التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق . هذا الفريق الذي كان يدعي الإيمان , ثم يسلك هذا السلوك الملتوي , إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان . المنافقين الذي لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر , فيتظاهرون بالإسلام . ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله , ولا أن يحكم فيهم قانونه , فإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا المعاذير (وما أولئك بالمؤمنين)فما يستقيم الإيمان وإباء حكم الله ورسوله . إلا أن تكون لهم مصلحة في أن يتحاكموا إلى شريعة الله أو يحكموا قانونه ! إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق . وهو المظهر الذي ينبى ء عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب . وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله . وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سييء الأدب معتم , لم يتأدب بأدب الإسلام , ولم يشرق قلبه بنور الإيمان . ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم , وتتعجب من ريبتهم , وتستنكر تصرفهم الغريب: (أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ?). . والسؤال الأول للإثبات . فمرض القلب جدير بأن ينشى مثل هذا الأثر . وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة . إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها , فلا تتذوق حقيقة الإيمان , ولا تسير على نهجه القويم .
والسؤال الثاني للتعجب . فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان ? هل هم يشكون في مجيئه من عند الله ? أوهم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل ? على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين ! والسؤال الثالث للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب . فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان . فالله خالق الجميع ورب الجميع . فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه ? إن حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف . لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحدا . وكل خلقه أمامه سواء , فلا يظلم أحد منهم لمصلحة أحد . وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف . فالبشر لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم . أفرادا كانوا أم طبقة أم دولة . وحين يشرع فرد ويحكم فلا بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه . وكذلك حين تشرع طبقة لطبقة , وحين تشرع دولة لدولة . أو كتلة من الدول لكتلة . . فأما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة .إنما هي العدالة المطلقة , التي لا يطيقها تشريع غير تشريع الله , ولا يحققها حكم غير حكمه . من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون , الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر ; ولا يحبون للحق أن يسود . فهم لا يخشون في حكم الله حيفا , ولا يرتابون في عدالته أصلا (بل أولئك هم الظالمون). . فأما المؤمنون حقا فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله . ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ; هو القول الذي يليق بالمؤمنين ; وينبى ء عن إشراق قلوبهم بالنور: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا:سمعنا وأطعنا . وأولئك هم المفلحون). . فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف . السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى ; النابعان من التسليم المطلق لله , واهب الحياة , المتصرف فيها كيف يشاء ; ومن الاطمئنان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم . فالله الذي خلق أعلم بمن خلق . . (وأولئك هم المفلحون). . المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بعلمه وعدله ; فلا بد أن يكونوا خيرا ممن يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بشر مثلهم , قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلا . . والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد , لا عوج فيه ولا التواء , مطمئنون إلى هذا المنهج , ماضون فيه لا يتخبطون , فلا تتوزع طاقاتهم , ولا يمزقهم الهوى كل ممزق , ولا تقودهم الشهوات والأهواء . والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم . (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون). . وقد كان الحديث في الآية السابقة عن الطاعة والتسليم في الأحكام . فالآن يتحدث عن الطاعة كافة في كل أمر أو نهي , مصحوبة هذه الطاعة بخشية الله وتقواه . والتقوى أعم من الخشية , فهي مراقبة الله والشعور به عند الصغيرة والكبيرة ; والتحرج من إتيان ما يكره توقيرا لذاته سبحانه , وإجلالا له , وحياء منه , إلى جانب الخوف والخشية . ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون , الناجون في دنياهم وأخراهم . وعد الله ولن يخلف الله وعده . وهم للفوز أهل , ولديهم أسبابه من واقع حياتهم . فالطاعة لله ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة , وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة . وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على النهج , وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه , فلا ينحرفون ولا يلتفتون . وأدب الطاعة لله ورسوله , مع خشية الله وتقواه , أدب رفيع , ينبىء عن مدى إشراق القلب بنور الله , واتصاله به , وشعوره بهيبته . كما ينبىء عن عزة القلب المؤمن واستعلائه . فكل طاعة لا ترتكن على طاعة الله ورسوله , ولا تستمد منها , هي ذلة يأباها الكريم , وينفر منها طبع المؤمن , ويستعلي عليها ضميره . فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار . وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين , وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان , وما هم بمؤمنين , بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن . قل:لا تقسموا . طاعة معروفة . إن الله خبير بما تعملون . قل:أطيعوا الله وأطيعوا الرسول . فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم . وإن تطيعوه تهتدوا . وما على الرسول إلا البلاغ المبين). . ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول الله [ ص ] لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن والله يعلم إنهم لكاذبون . فهو يرد عليهم متهكما , ساخرا من أيمانهم . (قل:لا تقسموا . طاعة معروفة). . لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها , مفروغ منها , لا تحتاج إلى حلف أو توكيد ! كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور به:لا تحلف لي على صدقك . فهو مؤكد ثابت لا يحتاج إلى دليل . ويعقب على التهكم الساخر بقوله: (إن الله خبير بما تعملون). . فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد , وقد علم أنكم لا تطيعون ولا تخرجون ! لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة . الطاعة الحقيقية . لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة ! (قل:أطيعوا الله وأطيعوا الرسول). . (فإن تولوا)وتعرضوا , أو تنافقوا ولا تنفذوا (فإنما عليه ما حمل)من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه (وعليكم ما حملتم)وهو أن تطيعوا وتخلصوا . وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه: (وإن تطيعوه تهتدوا)إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح . (وما على الرسول إلا البلاغ المبين)فليس مسؤولا عن إيمانكم , وليس مقصرا إذا أنتم توليتم . إنما أنتم المسؤولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول . الدرس الثاني:55 - 57 وعد المؤمنين بالتمكين وانتصار الدين وبعد استعراض أمر المنافقين , والانتهاء منه على هذا النحو . . يدعهم السياق وشأنهم , ويلتفت عنهم إلى المؤمنين المطيعين , يبين جزاء الطاعة المخلصة , والإيمان العامل , في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ; وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ; وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا . يعبدونني لا يشركون بي شيئا . ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون). . ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد [ ص ] أن يستخلفهم في الأرض . وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا . . ذلك وعد الله . ووعد الله حق . ووعد الله واقع . ولن يخلف الله وعده . . فما حقيقة ذلك الإيمان ? وما حقيقة هذا الاستخلاف ? إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ; وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ; لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ; وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة , لا يبقى معها هوى في النفس , ولا شهوة في القلب , ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله [ ص ] من عند الله . فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله , بخواطر نفسه , وخلجات قلبه . وأشواق روحه , وميول فطرته , وحركات جسمه , ولفتات جوارحه , وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . . يتوجه بهذا كله إلى الله . . يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمنيعبدونني لا يشركون بي شيئا)والشرك مداخل وألوان , والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله . ذلك الإيمان منهج حياة كامل , يتضمن كل ما أمر الله به , ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب , وإعداد العدة , والأخذ بالوسائل , والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض . . أمانة الاستخلاف . . فما حقيقة الاستخلاف في الأرض ? إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم . . إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض , اللائق بخليقة أكرمها الله . إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح , لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة , لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري , لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان ! وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله ; ويقرروا العدل الذي أراده الله ; ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . . فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض , وينشرون فيها البغي والجور , وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . . فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه , أو مبتلى بهم غيرهم , ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله . آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم). . وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب , كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض , وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح , ويأمر بالعدل , ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . ويأمر بعمارة هذه الأرض , والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة , ومن رصيد , ومن طاقة , مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله . (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا). . ولقد كانوا خائفين , لا يأمنون , ولا يضعون سلاحهم أبدا حتى بعد هجرة الرسول [ ص ] إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة . قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية:كان النبي [ ص ] وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده , وإلى عبادته وحده بلا شريك له , سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ; حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة , فقدموها , فأمرهم الله بالقتال , فكانوا بها خائفين , يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ; فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من الصحابة قال:يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ? أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ? فقال رسول الله [ ص ] عليه وسلم - " لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة " . وأنزل الله هذه الآية , فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب , فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله قبض نبيه [ ص ] فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان . حتى وقعوا فيما وقعوا فيه , فأدخل الله عليهم الخوف ; فاتخذوا الحجزة والشرط , وغيروا فغير بهم . . (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون). . الخارجون على شرط الله . ووعد الله . وعهد الله . . لقد تحقق وعد الله مرة . وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا). . لا من الآلهة ولا من الشهوات . ويؤمنون - من الإيمان - ويعملون صالحا . ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة . إنما يبطى ء النصر والاستخلاف والتمكين والأمن . لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة ; أو في تكليف من تكاليفه الضخمة ; حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء , وجازت الابتلاء , وخافت فطلبت الأمن , وذلت فطلبت العزة , وتخلفت فطلبت الاستخلاف . . كل ذلك بوسائله التي أرادها الله , وبشروطه التي قررها الله . . تحقق وعد الله الذي لا يتخلف , ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا . لذلك يعقب على هذا الوعد بالأمر بالصلاة والزكاة والطاعة , وبألا يحسب الرسول [ ص ] وأمته حسابا لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة , وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون . لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض . ومأواهم النار ولبئس المصير). . فهذه هي العدة . . الاتصال بالله , وتقويم القلب بإقامة الصلاة . والاستعلاء على الشح , وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة . وطاعة الرسول والرضى بحكمه , وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة , وتحقيق النهج الذي أراده للحياة: (لعلكم ترحمون)في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال , وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال . فإذا استقمتم على النهج , فلا عليكم من قوة الكافرين . فما هم بمعجزين في الأرض , وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق . وأنتم أقوياء بإيمانكم , أقوياء بنظامكم , أقوياء بعدتكم التي تستطيعون . وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية . ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب . إن الإسلام حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في تلك الآيات . ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية , وهو يدرك شروطها على حقيقتها , قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب , أو يستبطى ء وقوعها في حالة من الحالات . إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله , وحكمت هذا النهج في الحياة , وارتضته في كل أمورها . . إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن . وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة , وذلت , وطرد دينها من الهيمنة على البشرية ; واستبد بها الخوف ; وتخطفها الأعداء . ألا وإن وعد الله قائم . ألا وإن شرط الله معروف . فمن شاء الوعد فليقم بالشرط . ومن أوفى بعهده من الله ? الوحدة الخامسة:58 - 64 الموضوع:آداب الإستئذان وتكاتف المسلمين وملكية الله للكون موضوع الوحدة إن الإسلام منهاج حياة كامل ; فهو ينظم حياة الإنسان في كل أطوارها ومراحلها , وفي كل علاقاتها وارتباطاتها , وفي كل حركاتها وسكناتها . ومن ثم يتولى بيان الآداب اليومية الصغيرة , كما يتولى بيان التكاليف العامة الكبيرة ; وينسق بينها جميعا , ويتجه بها إلى الله في النهاية . وهذه السورة نموذج من ذلك التنسيق . لقد تضمنت بعض الحدود إلى جانب الاستئذان على البيوت . وإلى جانبها جولة ضخمة في مجالي الوجود . ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى الله ورسوله وسوء أدب المنافقين . إلى جانب وعد الله الحق للمؤمنين بالاستخلاف والأمن والتمكين . وها هو ذا في هذا الدرس يعود إلى آداب الاستئذان في داخل البيوت ; إلى جانب الاستئذان من مجلس رسول الله -[ ص ] - وينظم علاقة الزيارة والطعام بين الأقارب والأصدقاء ; إلى جانب الأدب الواجب في خطاب الرسول ودعائه . . . فكلها آداب تأخذ بها الجماعة المسلمة وتنتظم بها علاقاتها . والقرآن يربيها في مجالات الحياة الكبيرة والصغيرة على السواء . الدرس الأول:58 - 59 الإستئذان داخل البيوت (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ; ثلاث مرات:من قبل صلاة الفجر , وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة , ومن بعد صلاة العشاء . ثلاث عورات لكم . ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن . طوافون عليكم بعضكم على بعض . كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم). . لقد سبقت في السورة أحكام الاستئذان على البيوت . وهنا يبين أحكام الاستئذان في داخل البيوت . فالخدم من الرقيق , والأطفال المميزون الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون بلا استئذان . إلا في ثلاثة أوقات تنكشف فيها العورات عادة , فهم يستأذنون فيها . هذه الأوقات هي:الوقت قبل صلاة الفجر حيث يكون الناس في ثياب النوم عادة أو أنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج . ووقت الظهيرة عند القيلولة , حيث يخلعون ملابسهم في العادة ويرتدون ثياب النوم للراحة . وبعد صلاة العشاء حين يخلعون ملابسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل . . وسماها(عورات)لانكشاف العورات فيها . وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم , وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم , كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم . وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية , مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية , ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة ! وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر . بينما يقرر النفسيون اليوم - بعد تقدم العلوم النفسية - أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها ; وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها . والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب ; وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب , سليمة الصدور , مهذبة المشاعر , طاهرة القلوب , نظيفة التصورات . ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات . ولا يجعل استئذان الخدم و الصغار في كل حين منعا للحرج . فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمةطوافون عليكم بعضكم على بعض). . وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات , وإزالة الحرج والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار . فأما حين يدرك الصغار سن البلوغ , فإنهم يدخلون في حكم الأجانب , الذين يجب أن يستأذنوا في كل وقت , حسب النص العام , الذي مضت به آية الاستئذان . ويعقب على الآية بقوله: (والله عليم حكيم)لأن المقام مقام علم الله بنفوس البشر , وما يصلحها من الآداب ; ومقام حكمته كذلك في علاج النفوس والقلوب . الدرس الثاني:60 الرخصة للقواعد من النساء ولقد سبق الأمر كذلك بإخفاء زينة النساء منعا لإثارة الفتن والشهوات . فعاد هنا يستثني من النساء القواعد اللواتي فرغت نفوسهن من الرغبة في معاشرة الرجال ; وفرغت أجسامهن من الفتنة المثيرة للشهوات: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا ; فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن - غير متبرجات بزينة - وأن يستعففن خير لهن ; والله سميع عليم). . فهؤلاء القواعد لا حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية , على ألا تنكشف عوراتهن ولا يكشفن عن زينة . وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة . وسمي هذا استعفافا . أي طلبا للعفة وإيثارا لها , لما بين التبرج والفتنة من صلة ; وبين التحجب والعفة من صلة . . وذلك حسب نظرية الإسلام في أن خير سبل العفة تقليل فرص الغواية , والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس . (والله سميع عليم). . يسمع ويعلم , ويطلع على ما يقوله اللسان , وما يوسوس في الجنان . والأمر هنا أمر نية وحساسية في الضمير . الدرس الثالث:61 تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء ثم يمضي في تنظيم العلاقات والارتباطات بين الأقارب والأصدقاء: ليس على الأعمى حرج , ولا على الأعرج حرج , ولا على المريض حرج , ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم , أو بيوت آبائكم , أو بيوت أمهاتكم , أو بيوت أخوانكم , أو بيوت أخواتكم , أو بيوت أعمامكم , أو بيوت عماتكم , أو بيوت أخوالكم , أو بيوت خالاتكم ; أو ما ملكتم مفاتحه , أو صديقكم . ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا . فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم , تحية من عند الله مباركة طيبة . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون . . روى أنهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة - دون استئذان - ويستصحبون معهم العمي والعرج والمرضى ليطعموهم . . الفقراء منهم . . فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلاء أن يصحبوهم دون دعوة من أصحاب البيوت أو إذن . ذلك حين نزلت: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)فقد كانت حساسيتهم مرهفة . فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا فيما نهى الله عنه , ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد . فأنزل الله هذه الآية , ترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج , وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه . وأن يصحب معه أمثال هؤلاء المحاويج . وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا يتضرر به . استنادا إلى القواعد العامة في أنه " لا ضرر ولا ضرار " وإلى أنه " لا يحل مال امرى ء مسلم إلا بطيب نفس " . ولآن الآية آية تشريع , فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي , والصياغة التي لا تدع مجالا للشك والغموض . كما نلمح فيها ترتيب القرابات . فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم . بل تقول (من بيوتكم)فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج , فبيت الابن بيت لأبيه , وبيت الزوج بيت لزوجته , وتليها بيوت الآباء , فبيوت الأمهات . فبيوت الإخوة , فبيوت الأخوات . فبيوت الأعمام , فبيوت العمات , فبيوت الأخوال , فبيوت الخالات . . ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه . ويلحق بها بيوت الأصدقاء . ليلحق صلتهم بصلة القرابة . عند عدم التأذي والضرر . فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان . فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الأكل منها , بين الحالة التي يجوز عليها الأكل: (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا)فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد . فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام ! فرفع الله هذا الحرج المتكلف , ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد , وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات . فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة). . وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية . فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه . والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله . تحمل ذلك الروح , وتفوح بذلك العطر . وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . . وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون). . وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير . . الدرس الرابع:62 - 64 تنظيم العلاقات بين المسلمين والآداب في مجلس الرسول وينتقل من تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء , إلى تنظيمها بين الأسرة الكبيرة . . أسرة المسلمين . . ورئيسها وقائدها محمد رسول الله [ ص ] وإلى آداب المسلمين في مجلس الرسول: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله . وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ; إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله . فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم , واستغفر لهم الله . إن الله غفور رحيم . لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا . قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا . فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم . ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ; ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا , والله بكل شيء عليم . . روى ابن اسحاق في سبب نزول هذه الآيات أنه لما كان تجمع قريش والأحزاب في غزوة الخندق . فلما سمع بهم رسول الله [ ص ] وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة . فعمل فيه رسول الله [ ص ] ترغيبا للمسلمين في الأجر , وعمل معه المسلمون فيه , فدأب ودأبوا , وأبطأ عن رسول الله [ ص ] وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين , وجعلوا يورون بالضعيف من العمل , ويتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول الله [ ص ] ولا إذنه ; وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله [ ص ] ويستأذنه في اللحوق بحاجته , فيأذن له . فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله , رغبة في الخير واحتسابا له . فأنزل الله تعالى في أولئك المؤمنين: إنما المؤمنون . . . الآية ثم قال تعالى:يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل , ويذهبون بغير إذن من النبي [ ص ]: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم . . . الآية . . وأيا ما كان سبب نزول هذه الآيات فهي تتضمن الآداب النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها . هذه الآداب التي لا يستقيم أمر الجماعة إلا حين تنبع من مشاعرها وعواطفها وأعماق ضميرها . ثم تستقر في حياتها فتصبح تقليدا متبعا وقانونا نافذا . وإلا فهي الفوضى التي لا حدود لها: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله). . لا الذين يقولون بأفواههم ثم لا يحققون مدلول قولهم ; ولا يطيعون الله ورسوله . (وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه). . والأمر الجامع الأمر الهام الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه , لرأى أو حرب أو عمل من الأعمال العامة . فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم . كي لا يصبح الأمر فوضى بلا وقار ولا نظام . وهؤلاء الذين يؤمنون هذا الإيمان , ويلتزمون هذا الأدب , لا يستأذنون إلا وهم مضطرون ; فلهم من إيمانهم ومن أدبهم عاصم ألا يتخلوا عن الأمر الجامع الذي يشغل بال الجماعة , ويستدعي تجمعها له . . ومع هذا فالقرآن يدع الرأي في الإذن أو عدمه للرسول [ ص ] رئيس الجماعة . بعد أن يبيح له حرية الإذن: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم). . [ وكان قد عاتبه على الإذن للمنافقين من قبل فقالعفا الله عنك ! لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)] . . يدع له الرأى فإن شاء أذن , وإن شاء لم يأذن , فيرفع الحرج عن عدم الإذن , وقد تكون هناك ضرورة ملحة . ويستبقي حرية التقدير لقائد الجماعة ليوازن بين المصلحة في البقاء والمصلحة في الانصراف . ويترك له الكلمة الأخيرة في هذه المسألة التنظيمية يدبرها بما يراه . ومع هذا يشير إلى أن مغالبة الضرورة , وعدم الانصراف هو الأولى ; وأن الاستئذان والذهاب فيهما تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي [ ص ] للمعتذرين: (واستغفر لهم الله . إن الله غفور رحيم). . وبذلك يقيد ضمير المؤمن . فلا يستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به إلى الاستئذان . ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول [ ص ] عند الاستئذان , وفي كل الأحوال . فلا يدعى باسمه:يا محمد . أو كنيته:يا أبا القاسم . كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا . إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه:يا نبي الله . يا رسول الله: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا). . فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله [ ص ] حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه . وهي لفتة ضرورية . فلا بد للمربي من وقار , ولا بد للقائد من هيبة . وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا ; وأن ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض . . يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم , ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير . ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن , يلوذ بعضهم ببعض , ويتدارى بعضهم ببعض . . فعين الله عليهم , وإن كانت عين الرسول لا تراهم: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا). . وهو تعبير يصور حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس ; ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة , وحقارة الحركة والشعور المصاحب لها في النفوس . (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). . وإنه لتحذير مرهوب , وتهديد رعيب . . فليحذر الذين يخالفون عن أمره , ويتبعون نهجا غير نهجه , ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة . ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس , وتختل فيها الموازين , وينتكث فيها النظام , فيختلط الحق بالباطل , والطيب بالخبيث , وتفسد أمور الجماعة وحياتها ; فلا يأمن على نفسه أحد , ولا يقف عند حده أحد , ولا يتميز فيها خير من شر . . وهي فترة شقاء للجميع: (أو يصيبهم عذاب أليم)في الدنيا أو في الآخرة . جزاء المخالفة عن أمر الله , ونهجه الذي ارتضاه للحياة . ويختم هذا التحذير , ويختم معه السورة كلها بإشعار القلوب المؤمنة والمنحرفة بأن الله مطلع عليها , رقيب على عملها , عالم بما تنطوي عليه وتخفيه . (ألا إن لله ما في السماوات والأرض . قد يعلم ما أنتم عليه ; ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا . والله بكل شيء عليم). . وهكذا تختم السورة بتعليق القلوب والأبصار بالله ; وتذكيرها بخشيته وتقواه . فهذا هو الضمان الأخير . وهذا هو الحارس لتلك الأوامر والنواهي , وهذه الأخلاق والآداب , التي فرضها الله في هذه السورة وجعلها كلها سواء . .
تفسير سورة النور لسيد قطب
التوقيع
خلف كل زاوية من زوايا الظلام.. انتظر وميض الأمل