• 12:29 صباحاً




تفسير سورة النور لسيد قطب

إضافة رد
أدوات الموضوع
عضو نشيط جدا
تاريخ التسجيل: Dec 2011
المشاركات: 680
معدل تقييم المستوى: 13
وميض الأمل is on a distinguished road
21 - 12 - 2011, 10:24 PM
  #1
وميض الأمل غير متواجد حالياً  
افتراضي تفسير سورة النور لسيد قطب




سورة النور
التعريف بالسورة هذه سورة النور . . يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله: (الله نور السماوات والأرض)ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ; ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة . وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية , تنير القلب , وتنير الحياة , ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح , وإشراق في القلوب , وشفافية في الضمائر , مستمدة كلها من ذلك النور الكبير .
وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف , ومن آدابوأخلاقسورة أنزلناها وفرضناها , وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). . فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة ; ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية , وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية .
والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود . وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة , التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة . والهدف واحد في الشدة واللين . هو تربية الضمائر , واستجاشة المشاعر ; ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة , حتى تشف وترف , وتتصل بنور الله . . وتتداخل الآداب النفسية الفردية , وآداب البيت والأسرة , وآداب الجماعة والقيادة . بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله , متصلة كلها بنور واحد هو نور الله . وهي في صميمها نور وشفافية , وإشراق وطهارة . تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض . نور الله الذي أشرقت به الظلمات . في السماوات والأرض , والقلوب والضمائر , والنفوس والأرواح .
ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل في خمسة أشواط:
الأول يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به ; ويليه بيان حد الزنا , وتفظيع هذه الفعلة , وتقطيع ما بين الزناة والجماعة المسلمة , فلا هي منهم ولا هم منها . ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه ; واستثناء الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة . ثم حديث الإفك وقصته . . وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات , ومشاكلة الطيبين للطيبات . وبالعلاقة التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء .
ويتناول الشوط الثاني وسائل الوقاية من الجريمة , وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية . فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها , والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم . والحض على إنكاح الأيامي . والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء . . وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور , ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية , وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين , وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية .
والشوط الثالث يتوسط مجموعة الآداب التي تتضمنها السورة , فيربطها بنور الله . ويتحدث عن أطهر البيوت التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت الله . . وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من اللمعان الكاذب ; أو كظلمات بعضها فوق بعض . ثم يكشف عن فيوض من نور الله في الآفاق:في تسبيح الخلائق كلها لله . وفي إزجاء السحاب . وفي تقليب الليل والنهار . وفي خلق كل دابة من ماء , ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها , مما هومعروض في صفحة الكون للبصائر والأبصار . .
والشوط الرابع يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله [ ص ] في الطاعة والتحاكم . ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم . ويعدهم , على هذا , الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين , والنصر على الكافرين .
ثم يعود الشوط الخامس إلى آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء . وإلى آداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة , مع رئيسها ومربيها - رسول الله [ ص ] .وتتم السورة بإعلان ملكية الله لما في السماوات والأرض , وعلمه بواقع الناس , وما تنطوي عليه حناياهم , ورجعتهم إليه , وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم . وهو بكل شيء عليم .
والآن نأخذ في التفصيل .
الدرس الأول:1 طبيعة السورة وأحكامها
(سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). .
مطلع فريد في القرآن كله . الجديد فيه كلمة(فرضناها)والمقصود بها - فيما نعلم - توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء . ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات . هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة , والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات , فتذكرهم بها تلك الآيات البينات , وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين .
الدرس الثاني:2 - 10 حد الزنا والقذف والملاعنة
ويتبع هذا المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا ; وتفظيع هذه الفعلة , التي تقطع ما بين فاعليها وبين الأمة المسلمة من وشائج وارتباطات:
(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ; ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله - إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر - وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ; وحرم ذلك على المؤمنين). .
كان حد الزانيين في أول الإسلام ما جاء في سورة النساءواللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا). . فكان حد المرأة الحبس في البيت والأذى بالتعبير . وكان حد الرجل الأذى بالتعبير .
ثم أنزل الله حد الزنا في سورة النور . فكان هذا هو(السبيل)الذي أشارت إليه من قبل آية النساء .
والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء . وهو الذي لم يحصن بالزواج . ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا عاقلا حرا . فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم .
وقد ثبت الرجم بالسنة . وثبت الجلد بالقرآن . ولما كان النص القرآني مجملا وعاما . وكان رسول الله [ ص ] قد رجم الزانيين المحصنين , فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن .
وهناك خلاف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن . والجمهور على أنه لا يجمع بين الجلد والرجم . كما أن هناك خلافا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده . وحول حد الزاني غير الحر . . وهو خلاف طويل لا ندخل في تفصيله هنا , يطلب في موضعه من كتب الفقه . . إنما نمضي نحن مع حكمة هذا التشريع . فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد , وعقوبة المحصن هي الرجم . ذلك أن الذي سبق له الوطء في نكاح صحيح - وهو مسلم حر بالغ - قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه , فعدوله عنه إلى الزنا يشي بفساد فطرته وانحرافها , فهو جدير بتشديد العقوبة , بخلاف البكر الغفل الغر , الذي قد يندفع تحت ضغط الميل وهو غرير . . وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل . فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر . فهو حري بعقوبة كذلك أشد .
والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده - كما سلف - فيشدد في الأخذ به , دون تسامح ولا هوادة:
(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة , ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله . إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).
فهي الصرامة في إقامة الحد ; وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما , وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته , تراخيا في دين الله وحقه . وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين , فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين .
ثم يزيد في تفظيع الفعلة وتبشيعها , فيقطع ما بين فاعليها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة:
(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك . وحرم ذلك على المؤمنين). .
وإذن فالذين يرتكبون هذه الفعلة لا يرتكبونها وهم مؤمنون . إنما يكونون في حالة نفسية بعيدة عن الإيمان وعن مشاعر الإيمان . وبعد ارتكابها لا ترتضي النفس المؤمنة أن ترتبط في نكاح مع نفس خرجت عن الإيمان بتلك الفعلة البشعة ; لأنها تنفر من هذا الرباط وتشمئز . حتى لقد ذهب الإمام أحمد إلى تحريم مثل هذا الرباط بين زان وعفيفة , وبين عفيف وزانية ; إلا أن تقع التوبة التي تطهر من ذلك الدنس المنفر . وعلى أية حال فالآية تفيد نفور طبع المؤمن من نكاح الزانية , ونفور طبع المؤمنة من نكاح الزاني ; واستبعاد وقوع هذا الرباط بلفظ التحريم الدال على شدة الاستبعاد: (وحرم ذلك على المؤمنين). . وبذلك تقطع الوشائج التي تربط هذا الصنف المدنس من الناس بالجماعة المسلمة الطاهرة النظيفة .
ورد في سبب نزول هذه الآية أن رجلا يقال له:مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة . وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها:عناق . وكانت صديقة له . وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله . قال:فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة . قال:فجاءت عناق , فأبصرت سواد ظل تحت الحائط . فلما انتهت إلي عرفتني . فقالت:مرثد ? فقلت:مرثد ! فقالت:مرحبا وأهلا . هلم فبت عندنا الليلة:قال:فقلت:يا عناق حرم الله الزنا . فقالت:يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم . قال:فتبعني ثمانية , ودخلت الحديقة . فانتهيت إلى غار أو كهف , فدخلت , فجاءوا حتى قاموا على رأسي , فبالوا , فظل بولهم على رأسي , فأعماهم الله عني . قال:ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته ; وكان رجلا ثقيلا ; حتى انتهيت إلى الإذخر ; ففككت عنه أحبله , فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة ; فأتيت رسول الله [ ص ] فقلت:يا رسول الله أنكح عناقا ? - مرتين - فأمسك رسول الله [ ص ] فلم يرد علي شيئا حتى نزلت(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة , والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك , وحرم ذلك على المؤمنين)فقال رسول الله [ ص ]:" يا مرثد . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة . فلا تنكحها " .
فهذه الرواية تفيد تحريم نكاح المؤمن للزانية ما لم تتب , ونكاح المؤمنة للزاني كذلك . وهو ما أخذ به الإمام أحمد . ورأى غيره غير رأيه . والمسألة خلافية تطلب في كتب الفقه . وعلى أية حال فهي فعلة تعزل فاعلها عن الجماعة المسلمة ; وتقطع ما بينه وبينها من روابط . وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو أشد وقعا !
والإسلام وهو يضع هذه العقوبات الصارمة الحاسمة لتلك الفعلة المستنكرة الشائنة لم يكن يغفل الدوافع الفطرية أو يحاربها . فالإسلام يقدر أنه لا حيلة للبشر في دفع هذه الميول , ولا خير لهم في كبتها أو قتلها . ولم يكن يحاول أن يوقف الوظائف الطبيعية التي ركبها الله في كيانهم , وجعلها جزءا من ناموس الحياة الأكبر , يؤدي إلى غايته من امتداد الحياة , وعمارة الأرض , التي استخلف فيها هذا الإنسان .
إنما أراد الإسلام محاربة الحيوانية التي لا تفرق بين جسد وجسد , أو لا تهدف إلى إقامة بيت , وبناء عش , وإنشاء حياة مشتركة , لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة ! وأن يقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية , التي تجعل من التقاء جسدين نفسين وقلبين وروحين , وبتعبير شامل التقاء إنسانين , تربط بينهما حياة مشتركة , وآمال مشتركة , وآلام مشتركة , ومستقبل مشترك , يلتقي في الذرية المرتقبة , ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك , الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان .
من هنا شدد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسة حيوانية , تذهب بكل هذه المعاني , وتطيح بكل هذه الأهداف ; وترد الكائن الإنساني مسخا حيوانيا , لا يفرق بين أنثى وأنثى , ولا بين ذكر وذكر . مسخا كل همه إرواء جوعة اللحم والدم في لحظة عابرة . فإن فرق وميز فليس وراء اللذة بناء في الحياة , وليس وراءها عمارة في الأرض , وليس وراءها نتاج ولا إرادة نتاج ! بل ليس وراءها عاطفة حقيقية راقية , لأن العاطفة تحمل طابع الاستمرار . وهذا ما يفرقها من الانفعال المنفرد المتقطع , الذي يحسبه الكثيرون عاطفة يتغنون بها , وإنما هي انفعال حيواني يتزيا بزي العاطفة الإنسانية في بعض الأحيان !
إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ; إنما ينظمها ويطهرها , ويرفعها عن المستوى الحيواني , ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية . فأما الزنا - وبخاصة البغاء - فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية , والأشواق العلوية ; ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل ; ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان , بل أشد غلظا من الحيوان . ذلك أن كثيرا من أزواج الحيوان والطير تعيش متلازمة , في حياة زوجية منظمة , بعيدة عن الفوضى الجنسية التي يشيعها الزنا - وبخاصة البغاء - في بعض بيئات الإنسان !
دفع هذه النكسة عن الإنسان هو الذي جعل الإسلام يشدد ذلك التشديد في عقوبة الزنا . . ذلك إلى الأضرار الاجتماعية التي تعارف الناس على أن يذكروها عند الكلام عن هذه الجريمة , من اختلاط الأنساب , وإثارة الأحقاد , وتهديد البيوت الآمنة المطمئنة . . . وكل واحد من هذه الأسباب يكفي لتشديد العقوبة . ولكن السبب الأول وهو دفع النكسة الحيوانية عن الفطرة البشرية , ووقاية الآداب الإنسانية التي تجمعت حول الجنس , والمحافظة على أهداف الحياة العليا من الحياة الزوجية المشتركة القائمة على أساس الدوام والامتداد . . هذا السبب هو الأهم في اعتقادي . وهو الجامع لكل الأسباب الفرعية الأخرى .
على أن الإسلام لا يشدد في العقوبة هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل , ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها . فالإسلام منهج حياة متكامل , لا يقوم على العقوبة ; إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة . ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر .
وفي هذه السورة نماذج من هذه الضمانات الوقائية الكثيرة ستأتي في موضعها من السياق . .
فإذا وقعت الجريمة بعد هذا كله فهو يدرأ الحد ما كان هناك مخرج منه لقوله [ ص ]: ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطى ء في العفو خير من أن يخطى ء في العقوبة لذلك يطلب شهادة أربعة عدول يقرون برؤية الفعل . أو اعترافا لا شبهة في صحته .
وقد يظن أن العقوبة إذن وهمية لا تردع أحدا , لأنها غير قابلة للتطبيق . ولكن الإسلام - كما ذكرنا - لا يقيم بناءه على العقوبة , بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة ; وعلى تهذيب النفوس , وتطهير الضمائر ; وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب , فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة . ولا يعاقب إلا المتبجحين بالجريمة , الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود . أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية . وقد جاء كل منهما يطلب من النبي [ ص ] أن يطهره بالحد , ويلح في ذلك , على الرغم من إعراض النبي مرارا ; حتى بلغ الإقرار أربع مرات . ولم يعد بد من إقامة الحد , لأنه بلغ إلى الرسول بصفة مستيقنة لا شبهة فيها . والرسول [ ص ] يقول:" تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب "
فإذا وقع اليقين , وبلغ الأمر إلى الحاكم , فقد وجب الحد ولا هوادة , ولا رأفة في دين الله . فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة , وعلى الآداب الإنسانية , وعلى الضمير البشري . وهي رأفة مصطنعة . فالله أرأف بعباده . وقد اختار لهم . وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم . والله أعلم بمصالح العباد , وأعرف بطبائعهم , فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية ; فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا , وتفسد فيها الفطرة , وترتكس في الحمأة , وتنتكس إلى درك البهيمة الأولى . .
والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة , وتطهير الجو الذي تعيش فيه . والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة - كما قلنا - إنما يعتمد على الضمانات الوقائية وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة .
لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة . ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة ; فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد:
(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا . وأولئك هم الفاسقون). .
إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات - وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا - بدون دليل قاطع , يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء ; ثم يمضي آمنا ! فتصبح الجماعة وتمسي , وإذا أعراضها مجرحة , وسمعتها ملوثة ; وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام ; وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه , وكل رجل فيها شاك في أصله , وكل بيت فيها مهدد بالانهيار . . وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق .
ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث ; وأن الفعلة فيها شائعة ; فيقدم عليها من كان يتحرج منها , وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها , وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها !
ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه ; والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء .
لهذا , وصيانة للأعراض من التهجم , وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم . . شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف , فجعلها قريبة من عقوبة الزنا . . ثمانين جلدة . . مع إسقاط الشهادة , والوصم بالفسق . . والعقوبة الأولى جسدية . والثانية أدبية في وسط الجماعة ; ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة , وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام ! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم . . ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل , أو بثلاثة معه إن كان قد رآه . فيكون قوله إذن صحيحا . ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة .
والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه , وعدم التحرج من الإذاعة به , وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها , ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة . وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء ; وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت .
وتظل العقوبات التي توقع على القاذف , بعد الحد , مصلتة فوق رأسه , إلا أن يتوب:
(إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم). .
وقد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء:هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها , فيرفع عنه وصف الفسق , ويظل مردود الشهادة ? أم إن شهادته تقبل كذلك بالتوبة . . فذهب الأئمة مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته , وارتفع عنه حكم الفسق . وقال الإمام أبو حنيفة:إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة , فيرتفع الفسق بالتوبة , ويبقى مردود الشهادة . وقال الشعبي والضحاك:لا تقبل شهادته , وإن تاب , إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف ; فحينئذ تقبل شهادته .
وأنا أختار هذا الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف . وبذلك يمحي آخر أثر للقذف . ولا يقال:إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الأدلة ! ولا يحيك في أي نفس ممن سمعوا الاتهام أنه ربما كان صحيحا ; ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود . . بذلك يبرأ العرض المقذوف تماما , ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية ; فلا يبقى هنالك داع لإهدار اعتبار القاذف المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان .
ذلك حكم القذف العام . ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته . فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات . والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه . لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص:
(والذين يرمون أزواجهم , ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم . فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين , والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين , والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم). .
وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج , يناسب دقة الحالة وحرج الموقف . ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته ; وليس له من شاهد إلا نفسه . فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا , ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . وتمسى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد . فإذا فعل أعطاها قدر مهرها , وطلقت منه طلقة بائنة , وحق عليها حد الزنا وهو الرجم . . ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ; وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة . . بذلك يدرأ عنها الحد , وتبين من زوجها بالملاعنة ; ولا ينسب ولدها - إن كانت حاملا - إليه بل إليها . ولا يقذف الولد ومن يقذفه يحد . .
وقد عقب على هذا التخفيف والتيسير , ومراعاة الأحوال والظروف بقوله:
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته , وأن الله تواب حكيم). .
ولم يبين ما الذي كان يكون لولا فضل الله ورحمته بمثل هذه التيسيرات , وبالتوبة بعد مقارفة الذنوب . . لم يبينه ليتركه مجملا مرهوبا , يتقيه المتقون . والنص يوحي بأنه شر عظيم .
وقد وردت روايات صحيحة في سبب نزول هذا الحكم:
روى الإمام أحمد - يإسناده - عن ابن عباس قال:لما نزلت: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار - رضي الله عنه -:أهكذا أنزلت يا رسول الله ? فقال رسول الله [ ص ]:" يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ? " فقالوا:يا رسول الله لا تلمه , فإنه رجل غيور . والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا , وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته . .
فقال سعد:والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق , وأنها من الله ; ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء . فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته . . قال:فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية , فجاء من أرضه عشاء , فوجد عند أهله رجلا , فرأى بعينيه , وسمع بأذنيه , فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله [ ص ] فقال:يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء , فوجدت عندها رجلا , فرأيت بعيني وسمعت بأذني . .
فكره رسول الله [ ص ] ما جاء به ; واشتد عليه ; واجتمعت عليه الأنصار وقالوا:قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة , إلا أن يضرب رسول الله [ ص ] هلال بن أمية , ويبطل شهادته في الناس . فقال هلال:والله إني لأرجو أن يجعل الله منها مخرجا . وقال هلال:يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به , والله يعلم إني لصادق . . فوالله إن رسول الله [ ص ] يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسول الله [ ص ] الوحي . وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه . [ يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي ] فنزلت: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله . . . الآية
فسري عن رسول الله [ ص ] فقال:" أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا " . . فقال هلال:قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل . فقال رسول الله [ ص ]:" أرسلوا إليها " فأرسلوا إليها فجاءت ; فتلاها رسول الله [ ص ] عليهما , فذكرهما , وأخبرهما أنعذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا . فقال هلال:والله يا رسول الله لقد صدقت عليها . فقالت:كذب . فقال رسول الله [ ص ]:" لاعنوا بينهما " . . فقيل لهلال:اشهد . فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . فلما كانت الخامسة قيل له:يا هلال اتق الله , فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة , وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فقال:والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها . فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . .
ثم قيل للمرأة . اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين . وقيل لها عند الخامسة:اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة . وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف . ثم قالت:والله لا أفضح قومي . فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . . ففرق رسول الله [ ص ] بينهما ; وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ; ولا يرمي ولدها ; ومن رمى ولدها فعليه الحد ; وقضى أن لا بيت لها عليه , ولا قوت لها , من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها . وقال:" إن جاءت به , أصهيب أريسح حمش الساقين فهو لهلال . . وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو الذي رميت به " . . فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين . فقال رسول الله [ ص ]:" لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " . .
وهكذا جاء هذا التشريع لمواجهة حالة واقعة بالفعل , وعلاج موقف صعب على صاحبه وعلى المسلمين , قد اشتد على رسول الله [ ص ] ولم يجد منه مخرجا , حتى طفق يقول لهلال بن أمية - كما ورد في رواية البخاري - " البينة أو حد في ظهرك " وهلال يقول:يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ?
ولقد يقول قائل:أليس الله - سبحانه - يعلم أن هذه الحالة قد تعترض التشريع العام للقذف ; فلماذا لم ينزل الله الاستثناء إلا بعد ذلك الموقف المحرج ?
والجواب:بلى إنه سبحانه ليعلم . ولكن حكمته تقتضي أن ينزل التشريع عند الشعور بالحاجة إليه , فتستقبله نفوس الناس باللهفة إليه , وإدراك ما فيه من حكمة ورحمة . ومن ثم عقب عليه بقولهولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم).
ونقف قليلا أمام هذه الواقعة , لنرى كيف صنع الإسلام , وكيف صنعت تربية رسول الله [ ص ] للناس لهذا القرآن . . كيف صنع هذا بالنفس العربية الغيور الشديدة الانفعال , المتحمسة التي لا تفكر في قصة الافك طويلا قبل الاندفاع . فهذا حكم ينزل بعقوبة القذف , فيشق على هذه النفوس . يشق عليها حتى ليسأل سعد ابن عبادة رسول الله [ ص ] أهكذا أنزلت يا رسول الله ? يسأل هذا السؤال وهو مستيقن أنها هكذا أنزلت . ولكنه يعبر بهذا السؤال عن المشقة التي يجدها في نفسه من الخضوع لهذا الحكم في حالة معينة في فراشه . وهو يعبر عن مرارة هذا التصور بقوله:" والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق . وأنها من الله ; ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ? فوالله إني لا آتي بهم حتى يكون قد قضى حاجته" !
وما يلبث هذا التصور المرير الذي لا يطيقه سعد بن عبادة في خياله . . ما يلبث أن يتحقق . . فهذا رجل يرى بعينيه ويسمع بأذنيه , ولكنه يجد نفسه محجوزا بحاجز القرآن ; فيغلب مشاعره , ويغلب وراثاته , ويغلب منطق البيئة العربية العنيف العميق ; ويكبح غليان دمه , وفوران شعوره , واندفاع أعصابه . . ويربط على هذا كله في انتظار حكم الله وحكم رسول الله [ ص ] وهو جهد شاق مرهق ; ولكن التربية الإسلامية أعدت النفوس لاحتماله كي لا يكون حكم إلا لله , في ذات الأنفس وفي شؤون الحياة .
كيف أمكن أن يحدث هذا ? لقد حدث لأنهم كانوا يحسون أن الله معهم , وأنهم في كنف الله , وأن الله يرعاهم , ولا يكلفهم عنتا ولا رهقا , ولا يتركهم عندما يتجاوز الأمر طاقتهم , ولا يظلمهم أبدا . كانوا يعيشون دائما في ظل الله , يتنفسون من روح الله , ويتطلعون إليه دائما كما يتطلع الأطفال إلى العائل الكافل الرحيم . . فها هو ذا هلال بن أمية يرى بعينيه ويسمع بأذنيه , وهو وحده ; فيشكو إلى رسول الله [ ص ] فلا يجد رسول الله [ ص ] مناصا من تنفيذ حد الله , وهو يقول له:" البينة . أو حد في ظهرك " ولكن هلال بن أمية لا يتصور أن الله تاركه للحد , وهو صادق في دعواه . فإذا الله ينزل ذلك الاستثناء في حالة الأزواج ; فيبشر رسول الله [ ص ] هلالا به ; فإذا هو يقول قولة الواثق المطمئن:قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل . . فهو الاطمئنان إلى رحمة الله ورعايته وعدله . والاطمئنان أكثر إلى أنه معهم , وأنهم ليسوا متروكين لأنفسهم ; إنما هم في حضرته , وفي كفالته . . وهذا هو الإيمان الذي راضهم على الطاعة والتسليم والرضى بحكم الله .
الدرس الثالث:11 - 18 استنكار موقف بعض المسلمين من الإفك
وبعد الانتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف , يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته ; وهو يتناول بيت النبوة الطاهرة الكريم , وعرض رسول الله [ ص ] أكرم إنسان على الله , وعرض صديقه الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - أكرم إنسان على رسول الله [ ص ] وعرض رجل من الصحابة - صفوان بن المعطل رضي الله عنه - يشهد رسول الله أنه لم يعرف عليه إلا خيرا . . وهو يشغل المسلمين في المدينة شهرا من الزمان . .
ذلك هو حديث الإفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع:
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم , بل هو خير لكم . لكل امرى ء منهم ما اكتسب من الإثم , والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا , وقالوا:هذا إفك مبين . لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم . إذ تلقونه بألسنتكم , وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ; وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم . ولولا إذ سمعتموه قلتم:ما يكونلنا أن نتكلم بهذا . سبحانك ! هذا بهتان عظيم . يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة , والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم . يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر , ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ; ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم . ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله . وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم . والله غفور رحيم . إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة , ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق , ويعلمون أن الله هو الحق المبين . الخبيثات للخبيثين , والخبيثون للخبيثات , والطيبات للطيبين , والطيبون للطيبات , أولئك مبرأون مما يقولون , لهم مغفرة ورزق كريم). .
هذا الحادث . حادث الإفك . قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق ; وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ; وعلق قلب رسول الله [ ص ] وقلب زوجة عائشة التي يحبها , وقلب أبي بكر الصديق وزوجه , وقلب صفوان بن المعطل . . شهرا كاملا . علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق .
فلندع عائشة - رضي الله عنها - تروي قصة هذا الألم , وتكشف عن سر هذه الآيات:

عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:
كان رسول الله [ ص ] إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه , فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ; وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي , فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب , وأنا أحمل في هودج , وأنزل فيه . فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله [ ص ] من غزوته تلك , وقفل , ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ; فقمت حين آذنوا بالرحيل , حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل , فلمست صدري , فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع , فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ; وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني , فاحتملوا هودجي , فرحلوه على بعيري , وهم يحسبون أني فيه ; وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ; وإنما نأكل العلقة من الطعام ; فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج , فحملوه ; وكنت جارية حديثة السن ; فبعثوا الجمل وساروا , فوجدت عقدي , بعدما استمر الجيش , فجئت منزلهم , وليس فيه أحد منهم , فتيممت منزلي الذي كنت فيه , وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ; فبينما أنا جالسة غلبتني عيناني فنمت . وكان صفوان بن المعطل السلمي . ثم الذكواني . قد عرس وراء الجيش , فأدلج , فأصبح عند منزلي ; فرأى سواد إنسان نائم , فأتاني فعرفني حين رآني . وكان يراني قبل الحجاب . فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني , فخمرت وجهي بجلبابي ; والله ما يكلمني بكلمة , ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ; وهوى حتى أناخ راحلته , فوطى ء على يديها , فركبتها , فانطلق يقود بي الراحلة , حتى أتينا الجيش , بعد ما نزلوا معرسين .
قالت:فهلك في شأني من هلك . وكان الذي تولى كبرالإثم عبد الله بن أبي بن سلول ; فقدمنا المدينة , فاشتكيت بها شهرا ; والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر . وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي [ ص ] اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي , إنما يدخل فيسلم ثم يقول:كيف تيكم ? ثم ينصرف . فذلك الذي يريبني منه , ولا أشعر بالشر حتى نقهت , فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف , وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط . فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه , وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - حين فرغنا من شأننا نمشي . فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت:تعس مسطح ! فقلت لها:بئسما قلت . أتسبين رجلا شهد بدرا ? فقالت:يا هنتاه ألم تسمعي ما قال ? فقلت:وما قال ? فأخبرتني بقول أهل الإفك , فازددت مرضا إلى مرضي . فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله [ ص ] فقال:كيف تيكم ? فقلت:ائذن لي أن آتي أبوي . وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما . فأذن لي , فأتيت أبوي , فقلت لأمي:يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به ? فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن , فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . فقلت:سبحان الله ! ولقد تحدث الناس بهذا ? قالت:فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . ثم أصبحت أبكي .
فدعا رسول الله [ ص ] علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله . قالت:فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله , وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم . فقال أسامة:هم أهلك يا رسول الله , ولا نعلم والله إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال:يا رسول الله لم يضيق الله عليك , والنساء سواها كثير , وسل الجارية تخبرك . قالت:فدعا رسول الله [ ص ] بريرة فقال لها:أي بريرة . هل رأيت فيها شيئا يريبك ? فقالت:لا والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها , فتأتي الداجن فتأكله . قالت:فقام رسول الله [ ص ] من يومه , واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول . فقال وهو على المنبر:من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ? فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا , وما كان يدخل على أهلي إلا معي . قالت:فقام سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال:يا رسول الله أنا والله أعذرك منه . إن كان من الأوس ضربنا عنقه , وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام سعد بن عبادة - رضي الله عنه - وهو سيد الخزرج , وكان رجلا صالحا ولكن أخذته الحمية . فقال لسعد بن معاذ:كذبت لعمر الله , لا تقتله ولا تقدر على ذلك . فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة:كذبت - لعمر الله - لنقتلنه , فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فثار الحيان - الأوسوالخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا , ورسول الله [ ص ] على المنبر , فلم يزل يحفظهم حتى سكتوا ونزل .
وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع , ولا أكتحل بنوم . ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . فأصبح أبواي عندي , وقد بكيت ليلتين ويوما , حتى أظن أن البكاء فالق كبدي . فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار , فأذنت لها , فجلست تبكي معي . فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله [ ص ] , ثم جلس , ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها , وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء , فتشهد حين جلس , ثم قال:" أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا . فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى , وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه , فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله تعالى عليه " . فلما قضى رسول الله [ ص ] مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة . فقلت لأبي:أجب عني رسول الله [ ص ] فيما قال . قال:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] فقلت لأمي:أجيبي عني رسول الله [ ص ] فيما قال . قالت:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] . قالت:وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن . فقلت:إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به , واستقر في نفوسكم , وصدقتم به . فلئن قلت لكم:إني بريئة لا تصدقوني بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة , لتصدقنني . فوالله مما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال:"فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون" .
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي , وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة , وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى ; ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى ; ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ ص ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها . فوالله ما رام مجلسه , ولا خرج أحد من أهل البيت , حتى أنزل الله تعالى على نبيه [ ص ] فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء , فسري عنه , وهو يضحك , فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي:يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك . فقالت لي أمي:قومي إلى رسول الله [ ص ] فقلت:والله لا أقوم إليه , ولا أحمد إلا الله تعالى , هو الذي أنزل براءتي . فأنزل الله تعالى: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . . . العشر الآيات
فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره:والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة . . إلى قوله (والله غفور رحيم)فقال أبو بكر - رضي الله عنه - بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي , فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه , وقال:والله لا أنزعها منه أبدا . قالت عائشة رضي الله عنها:وكان رسول الله [ ص ] سأل زينب بنت جحش عن أمري , فقال:" يا زينب . ما علمت وما رأيت ? " فقالت:يا رسول الله أحمي سمعي وبصري , والله ما علمت عليها إلا خيرا . وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي [ ص ] فعصمها الله تعالى بالورع . قالت:فطفقت أختها حمنة تحارب لها , فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .
وهكذا عاش رسول الله [ ص ] وأهل بيته . وعاش أبو بكر - رضي الله عنه - وأهل بيته . وعاش صفوان بن المعطل . وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق , وفي ظل تلك الآلام الهائلة , بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات .
وإن الإنسان ليقف متململا أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول [ ص ] وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة زوجه المقربة . وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة . تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيقة .
فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة . ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها , ونظافة تصوراتها , ها هي ذي ترمي في أعز ما تعتز به . ترمى في شرفها . وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع . وترمى في أمانتها . وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم . وترمى في وفائها . وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القرب الكبير . . ثم ترمى في إيمانها . وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام , من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة . وهي زوج رسول الله [ ص ] .
ها هي ذي ترمى , وهي بريئة غارة غافلة , لا تحتاط لشيء , ولا تتوقع شيئا ; فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله , وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا , تبرئها مما رميت به . ولكن الوحي يتلبث , لحكمة يريدها الله , شهرا كاملا ; وهي في مثل هذا العذاب .
ويا لله لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح . وهي مهدودة من المرض . فتعاودها الحمى ; وهي تقول لأمها في أسى:سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا ? وفي رواية أخرى تسأل:وقد علم به أبي ? فتجيب أمها:نعم ! فتقول:ورسول الله [ ص ] ? - فتجيبها أمها كذلك:نعم !
ويا لله لها ورسول الله [ ص ] نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه , يقول لها:" أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا ; فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى , وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه , فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه " . . فتعلم أنه شاك فيها , لا يستيقن من طهارتها , ولا يقضي في تهمتها . وربه لم يخبره بعد , ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن لا تملك إثباتها ; فتمسي وتصبح وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها , وأحلها في سويدائه !
وها هو ذا أبو بكر الصديق - في وقاره وحساسيته وطيب نفسه - يلذعه الألم , وهو يرمى في عرضه . في ابنته زوج محمد - صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه , ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل , لا يطلب دليلا من خارجه . . وإذا الألم يفيض على لسانه , وهو الصابر المحتسب القوي على الألم , فيقول:والله ما رمينا بهذا في جاهلية . أفنرضى به في الإسلام ? وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل . حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة:أجب عني رسول الله [ ص ] قال في مرارة هامدة:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] !
وأم رومان - زوج الصديق رضي الله عنهما - وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء . المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها . فتقول لها:يا بنية هوني على نفسك الشأن , فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . . ولكن هذا التماسك بتزايل وعائشة تقول لها:أجيبي عني رسول الله [ ص ] فتقول كما قال زوجها من قبل:والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ ص ] !
والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل . وهو يرمي بخيانة نبيه في زوجه . فيرمي بذلك في إسلامه , وفي أمانته , وفي شرفه , وفي حميته . وفي كل ما يعتز به صحابي , وهو من ذلك كله برى ء . وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره , فيقول:سبحان الله ! والله ما كشفت كتف أنثى قط . ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الإفك عنه , فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه ضربة تكاد تودي به . ودافعه إلى رفع سيفه على امرى ء مسلم , وهو منهى عنه , أن الألم قد تجاوز طاقته , فلم يملك زمام نفسه الجريح !
ثم ها هو ذا رسول الله [ ص ] وهو رسول الله , وهو في الذروة من بني هاشم . . ها هو ذا يرمى في بيته . وفي من ? في عائشة التي حلت من قلبه في مكان الابنة والزوجه والحبيبة . وها هو ذا يرمى في طهارة فراشه , وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة . وها هو ذا يرمي في صيانة حرمته , وهو القائم على الحرمات في أمته . وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له , وهو الرسول المعصوم من كل سوء .
ها هو ذا [ ص ] يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة - رضي الله عنها - يرمى في فراشه وعرضه , وقلبه ورسالته . يرمى في كل ما يعتز به عربي , وكل ما يعتز به نبي . . ها هو ذا يرمى في هذا كله ; ويتحدث الناس به في المدينة شهرا كاملا , فلا يملك أن يضع لهذا كله حدا . والله يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهرا كاملا لا يبين فيه بيانا . ومحمد الإنسان يعاني ما يعانيه الإنسان في هذا الموقف الأليم . يعاني من العار , ويعاني فجيعة القلب ; ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة . الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق . . والشك يعمل في قلبه - مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله , ولكنه لا يطمئن نهائيا إلى هذه القرائن - والفرية تفوح في المدينة , وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك ; فلا يملك أن يطرد الشك . لأنه في النهاية بشر , ينفعل في هذا انفعالات البشر . وزوج لا يطيق أن يمس فراشه . ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت , ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم .
وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده , فيبعث إلى أسامة بن زيد . حبه القريب إلى قلبه . . ويبعث إلى علي ابن أبي طالب . ابن عمه وسنده . يستشيرهما في خاصة أمره . فأما علي فهو من عصب محمد , وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب . ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد , ابن عمه وكافله . فهو يشير بأن الله لم يضيق عليه . ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله [ ص ] ويستقر على قرار . وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول الله [ ص ] من الود لأهله , والتعب لخاطر الفراق , فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين , وكذب المفترين الأفاكين .
ورسول الله [ ص ] في لهفة الإنسان , وفي قلق الإنسان , يستمد من حديث أسامة , ومن شهادة الجارية مددا وقوة يواجه بهما القوم في المسجد , فيستعذر ممن نالوا عرضه , ورموا أهله , ورموا رجلا من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء . . فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور - وهم في مسجد رسول الله [ ص ] وفي حضرة رسول الله [ ص ] ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة , وقد خدشت قداسة القيادة , ويحز هذا في نفس الرسول [ ص ] والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق ! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها يصارحها بما يقول الناس ; ويطلب منها هي البيان الشافي المريح !
وعندما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه , فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقةالطاهرة ; وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع ; ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك , ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم .
ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل:"وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة , وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى . ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى . ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ ص ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها" . .
ولكن الأمر - كما يبدو من ذلك الاستعراض - لم يكن أمر عائشة - رضي الله عنها - ولا قاصرا على شخصها . فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول [ ص ] ووظيفته في الجماعة يومها . بل تجاوزه إلى صلته بربه ورسالته كلها . وما كان حديث الإفك رمية لعائشة وحدها , إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها . . من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة , ويرد المكيدة المدبرة , ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام ; ويكشف عن الحكمة العليا وراء ذلك كله ; وما يعلمها إلا الله:
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم , بل هو خير لكم . لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم . والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم .
فهم ليسوا فردا ولا أفرادا ; إنما هم(عصبة)متجمعة ذات هدف واحد . ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك . إنما هو الذي تولى معظمه . وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين , الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة ; فتواروا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خفية . وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة . ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش ; وحسان بن ثابت , ومسطح بن أثاثة . أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة , وعلى رأسها ابن سلول , الحذر الماكر , الذي لم يظهر بشخصه في المعركة . ولم يقل علانية ما يؤخذ به , فيقاد إلى الحد . إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم , ولا يشهدون عليه . وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهرا كاملا , وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها !
وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث , وعمق جذوره , وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم .
ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد:
(لا تحسبوه شرا لكم ; بل هو خير لكم). .
خير . فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله [ ص ] وأهل بيته . وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله ; ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . فهي عندئذ لا تقف عند حد . إنما تمضي صعدا إلى أشرف المقامات , وتتطاول إلى أعلى الهامات , وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء .
وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة - بهذه المناسبة - عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم .
أما الآلام التي عاناها رسول الله [ ص ] وأهل بيته , والجماعة المسلمة كلها , فهي ثمن التجربة , وضريبة الابتلاء , الواجبة الأداء !
أما الذين خاضوا في الإفك , فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة: (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم). . ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله . وبئس ما اكتسبوه , فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم)يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم .
والذي تولى كبره , وقاد حملته , واضطلع منه بالنصيب الأوفى , كان هو عبد الله بن أبي بن سلول . رأس النفاق , وحامل لواء الكيد . ولقد عرف كيف يختار مقتلا , لولا أن الله كان من ورائه محيطا , وكان لدينه حافظا , ولرسوله عاصما , وللجماعة المسلمة راعيا . . ولقد روي أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في ملأ من قومه قال:من هذه ? فقالوا:عائشة رضي الله عنها . . فقال:والله ما نجت منه ولا نجا منها . وقال:امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ; ثم جاء يقودها !
وهي قولة خبيثة راح يذيعها - عن طريق عصبة النفاق - بوسائل ملتوية . بلغ من خبثها أن تموج المدينة بالفرية التي لا تصدق , والتي تكذبها القرائن كلها . وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين . وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهرا كاملا . وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الأولى .
وإن الإنسان ليدهش - حتى اليوم - كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حينذاك . وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة , وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق .
لقد كانت معركة خاضها رسول الله [ ص ] وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك . وخاضها الإسلام . معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله [ ص ] وخرج منها منتصرا كاظما لآلامه الكبار , محتفظا بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره . فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله . والآلام التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته . والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها في تاريخه .
ولو استشار كل مسلم قلبه يومها لأفتاه ; ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه . والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا المنهج في مواجهة الأمور , بوصفه أول خطوة في الحكم عليها:
(لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا , وقالوا:هذا إفك مبين). .
نعم كان هذا هو الأولى . . أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا . وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحمأة . . وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم . فظن الخير بهما أولى . فإن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله [ ص ] ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيرا . . كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته - رضي الله عنهما - كما روى الإمام محمد ابن إسحاق:أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب:يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة - رضي الله عنها ? - قال:نعم . وذلك الكذب . أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ? قالت:لا والله ما كنت لأفعله . قال:فعائشة والله خير منك . . ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره:"الكشاف" أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب:ألا ترين ما يقال ? فقالت:لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله [ ص ] سوءا ? قال:لا . قالت:ولو كنت أنا بدل عائشة - رضي الله عنها - ما خنت رسول الله [ ص ] فعائشة خير مني , وصفوان خير منك . .
وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه , فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة , وما نسب إلى رجل من المسلمين:من معصية لله وخيانة لرسوله , وارتكاس في حمأة الفاحشة , لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة !
هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور . خطوة الدليل الباطني الوجداني . فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي:
لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . . وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات , وأطهر الأعراض , ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة ; وأن تشيع هكذا دون تثبت ولا بينة ; وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد ولا دليل: لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء ! وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن . كاذبون عند الله الذي لا يبدل القول لديه , والذي لا يتغير حكمه , ولا يتبدل قراره . فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي لا براءة لهم منها , ولا نجاة لهم من عقباها .
هاتان الخطوتان:خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير . وخطوة التثبت بالبينة والدليل . . غفل عنهما المؤمنون في حادث الإفك ; وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله [ ص ] وهو أمر عظيم لولا لطف الله لمس الجماعة كلها البلاء العظيم . فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبدا بعد هذا الدرس الأليم:
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم). .
لقد احتسبها الله للجماعة المسلمة الناشئة درسا قاسيا . فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسسهم بعقابه وعذابه . فهي فعلة تستحق العذاب العظيم . العذاب الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول [ ص ] وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلا خيرا . والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع ; ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجماعة . والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل , حافل بالقلق والقلقة والحيرة بلا يقين ! ولكن فضل الله تدارك الجماعة الناشئة , ورحمته شملت المخطئين , بعد الدرس الأليم .
والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام ; واختلت فيها المقاييس , واضطربت فيها القيم , وضاعت فيها الأصول:
(إذ تلقونه بألسنتكم , وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ; وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم). .
وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج , وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام:
(إذ تلقونه بألسنتكم). . لسان يتلقى عن لسان , بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إنعام نظر . حتى لكأن القول لا يمر على الآذان , ولا تتملاه الرؤوس , ولا تتدبره القلوب ! (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم). . بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم . إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه , قبل أن تستقر في المدارك , وقبل أن تتلقاها العقول . .
(وتحسبونه هينا)أن تقذفوا عرض رسول الله , وأن تدعوا الألم يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله ; وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يرم في الجاهلية ; وأن تتهموا صحابيا مجاهدا في سبيل الله . وأن تمسوا عصمة رسول الله [ ص ] وصلته بربه , ورعاية الله له . . (وتحسبونه هينا). . (وهو عند الله عظيم). . وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي , وتضج منه الأرض والسماء .
ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه , وأن تتحرج من مجرد النطق به , وأن تنكر أن يكون هذا موضوعا للحديث ; وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا ; وأن تقذف بهذا الإفك بعيدا عن ذلك الجو الطاهر الكريم:
(ولولا إذ سمعتموه قلتم:ما يكون لنا أن نتكلم بهذا . سبحانك ! هذا بهتان عظيم). .
وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزها هزا ; وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما عملت . . عندئذ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم:
(يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين). .
(يعظكم). . في أسلوب التربية المؤثر . في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار . مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كانيعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا). . ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة: (إن كنتم مؤمنين). . فالمؤمنون لا يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف , وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير , ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون:
(ويبين الله لكم الآيات). . على مثال ما بين في حديث الإفك , وكشف عما وراءه من كيد ; وما وقع فيه من خطايا وأخطاء: (والله عليم حكيم)يعلم البواعث والنوايا والغايات والأهداف ; ويعلم مداخل القلوب , ومسارب النفوس . وهو حكيم في علاجها , وتدبير أمرها , ووضع النظم والحدود التي تصلح بها . .
الدرس الرابع:19 - 22 معالجة بعض آثار حادث الإفك
ثم يمضي في التعقيب على حديث الإفك ; وما تخلف عنه من آثار ; مكررا التحذير من مثله , مذكرا بفضل الله ورحمته , متوعدا من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في الآخرة . ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة ; وإطلاقها من ملابسات الأرض , وإعادة الصفاء إليها والإشراق . . كما تتمثل في موقف أبي بكر - رضي الله عنه - من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض:
(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة , والله يعلم وأنتم لا تعلمون). .
والذين يرمون المحصنات - وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم - إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة ; وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة , وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها . . بذلك تشيع الفاحشة في النفوس , لتشيع بعد ذلك في الواقع .
من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا , وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة .
وذلك جانب من منهج التربية , وإجراء من إجراءات الوقاية . يقوم على خبرة بالنفس البشرية , ومعرفة بطريقة تكيف مشاعرها واتجاهاتها . . ومن ثم يعقب بقوله: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون). . ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها ? ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي برأها ? ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن , ولا يخفى على علمه شيء إلا العليم الخبير ?
ومرة أخرى يذكر المؤمنين بفضل الله عليهم ورحمته:
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم). .
إن الحدث لعظيم , وإن الخطأ لجسيم , وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء . ولكن فضل الله ورحمته , ورأفته ورعايته . . ذلك ما وقاهم السوء . . ومن ثم يذكرهم به المرة بعد المرة ; وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين .
فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكا أن يصيبهم جميعا , لولا فضل الله ورحمته , صور لهم عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان . وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم . وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير:
يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ; ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر . ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ; ولكن الله يزكي من يشاء , والله سميع عليم . .
وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبع المؤمنون خطاه , وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان وأن يسلكوا طريقا غير طريقه المشؤوم ! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن , ويرتجف لها وجدانه , ويقشعر لها خياله ! ورسم هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في نفوسهم اليقظة والحذر والحساسية:
(ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر). . وحديث الإفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه المؤمنين الذين خاضوا فيه . وهو نموذج منفر شنيع .
وإن الإنسان لضعيف , معرض للنزعات , عرضة للتلوث . إلا أن يدركه فضل الله ورحمته . حين يتجه إلى الله , ويسير على نهجه .
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا . ولكن الله يزكي من يشاء . .
فنور الله الذي يشرق في القلب يطهره ويزكيه . ولولا فضل الله ورحمته لم يزك من أحد ولم يتطهر . والله يسمع ويعلم , فيزكي من يستحق التزكية , ويطهر من يعلم فيه الخير والاستعداد (والله سميع عليم). .
وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض - كما يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب -:
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ; وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم ? والله غفور رحيم . .
نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة . وقد عرف أنه مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه . وهو قريبه . وهو من فقراء المهاجرين . وكان أبو بكر - رضي الله عنه - ينفق عليه . فآلى على نفسه لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا .
نزلت هذه الآية تذكر أبا بكر , وتذكر المؤمنين , بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم . فليأخذوا أنفسهم - بعضهم مع بعض - بهذا الذي يحبونه , ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه , إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا . .
وهنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية , التي تطهرت بنور الله . أفق يشرق في نفس أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أبي بكر الذي مسه حديث الإفك في أعماق قلبه , والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه . فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو ; وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم ?)حتى يرتفع على الآلام , ويرتفع على مشاعر الإنسان , ويرتفع على منطق البيئة . وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله . فإذا هو يلبي داعي الله في طمأنينة وصدق يقول:بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي . ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه , ويحلف:والله لا أنزعها منه أبدا . ذلك في مقابل ما حلف:والله لا أنفعه بنافعة أبدا .
بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير , ويغسله من أوضار المعركة , ليبقى أبدا نظيفا طاهرا زكيا مشرقا بالنور . .
الدرس الخامس:23 - 25 وعيد من يقذفون المؤمنات الغافلات
ذلك الغفران الذي يذكر الله المؤمنين به . إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا . فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار , كأمثال ابن أبي فلا سماحة ولا عفو . ولو أفلتوا من الحد في الدنيا , لأن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة . ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود:
(إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة , ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق , ويعلمون أن الله هو الحق المبين). .
ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها ; وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارات , غير آخذات حذرهن من الرمية . وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئا , لأنهن لم يأتين شيئا يحذرنه ! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة . ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة . لعنة الله لهم . وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة . ثم يرسم ذلك المشهد الأخاذ: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم). . فإذا بعضهم يتهم بعضا بالحق , إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالإفك ! وهي مقابلة في المشهد مؤثرة , على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني .
(يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق). . ويجزيهم جزاءهم العدل , ويؤدي لهم حسابهم الدقيق . ويومئذ يستيقنون مما كانوا يستريبون: (ويعلمون أن الله هو الحق المبين). .
الدرس السادس:26 الصالحات للصالحين وبراءة عائشة
ويختم الحديث عن حادث الإفك ببيان عدل الله في اختياره الذي ركبه في الفطرة , وحققه في واقع الناس . وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة , وأن تمتزج النفس الطيبة بالنفس الطيبة . وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج . وما كان يمكن أن تكون عائشة - رضي الله عنها - كما رموها , وهي مقسومة لأطيب نفس على ظهر هذه الأرض:
الخبيثات للخبيثين , والخبيثون للخبيثات . والطيبات للطيبين , والطيبون للطيبات . أولئك مبرأون مما يقولون , لهم مغفرة ورزق كريم . .
ولقد أحبت نفس رسول الله [ ص ] عائشة حبا عظيما . فما كان يمكن أن يحببها الله لنبيه المعصوم , إن لم تكن طاهرة تستحق هذا الحب العظيم .
أولئك الطيبون والطيبات (مبرأون مما يقولون)بفطرتهم وطبيعتهم , لا يلتبس بهم شيء مما قيل .
(لهم مغفرة ورزق كريم). . مغفرة عما يقع منهم من أخطاء . ورزق كريم . دلالة على كرامتهم عند ربهم الكريم .
بذلك ينتهي حديث الإفك . ذلك الحادث الذي تعرضت فيه الجماعة المسلمة لأكبر محنة . إذ كانت محنة الثقة في طهارة بيت الرسول , وفي عصمة الله لنبيه أن يجعل في بيته إلا العنصر الطاهر الكريم . وقد جعلها الله معرضا لتربية الجماعة المسلمة , حتى تشف وترف ; وترتفع إلى آفاق النور . . في سورة النور . .
الوحدة الثانية:27 - 34 الموضوع:وسائل الوقاية من الزنا:الإستئذان وغض البصر والتزويج
موضوع الوحدة
إن الإسلام - كما أسلفنا - لا يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف , إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية . وهو لا يحارب الدوافع الفطرية . ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة .
والفكرة السائدة في منهج التربية الإسلامية في هذه الناحية , هي تضييق فرص الغواية , وإبعاد عوامل الفتنة ; وأخذ الطريق على أسباب التهييج والإثارة . مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة . .
ومن هنا يجعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها ; فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول , خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت , وعلى عورات أهلها وهم غافلون . . ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء , وعدم التبرج بالزينة لإثارة الشهوات .
ومن هنا كذلك ييسر الزواج للفقراء من الرجال والنساء . فالإحصان هو الضمان الحقيقي للاكتفاء . . وينهى عن تعريض الرقيق للبغاء كي لا تكون الفعلة سهلة ميسرة , فتغري بيسرها وسهولتها بالفحشاء .
فلننظر نظرة تفصيلية في تلك الضمانات الواقية التي يأخذ بها الإسلام .
الدرس الأول:27 29 الإستئذان للدخول في البيوت
(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها , ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون . فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم . وإن قيل لكم:ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم , والله بما تعملون عليم . ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم . والله يعلم ما تبدون وما تكتمون). .
لقد جعل الله البيوت سكنا , يفيء إليها الناس ; فتسكن أرواحهم ; وتطمئن نفوسهم ; ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم , ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب !
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم . وفي الوقت الذي يريدون , وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس .
ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان , يجعل أعينهم تقع على عورات ; وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات ; وتهيى ء الفرصة للغواية , الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة , التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة , تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار ; وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات .
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوما , فيدخل الزائر البيت , ثم يقول:لقد دخلت ! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد . وكان يقع أن تكون المرأة عاريةأو مكشوفة العورة , هي أو الرجل , وكان ذلك يؤذي ويجرح , ويحرم البيوت أمنها وسكينتها ; كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة , حين تقع العين على ما يثير .
من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي . أدب الاستئذان على البيوت , والسلام على أهلها لإيناسهم . وإزالة الوحشة من نفوسهم , قبل الدخول:
(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها). .
ويعبر عن الاستئذان بالاستئناس - وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان , ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق , فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به , واستعدادا لاستقباله . وهي لفتة دقيقة لطيفة , لرعاية أحوال النفوس , ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم , وما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار .
وبعد الاستئذان إما أن يكون في البيوت أحد من أهلها أو لا يكون . فإن لم يكن فيها أحد فلا يجوز اقتحامها بعد الاستئذان , لأنه لا دخول بغير إذن:
(فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم). .
وإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول ; فإنما هو طلب للإذن . فإن لم يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك . ويجب الانصراف دون تلكؤ ولا انتظار:
(وإن قيل لكم:ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم). .
ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة , ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم , أو النفرة منكم . فللناس أسرارهم وأعذارهم . ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم في كل حين .
(والله بما تعملون عليم). . فهو المطلع على خفايا القلوب , وعلى ما فيها من دوافع ومثيرات .
فأما البيوت العامة كالفنادق والمثاوى والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن , فلا حرج في الدخول إليها بغير استئذان , دفعا للمشقة ما دامت علة الاستئذان منتفية:
(ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم). .
(والله يعلم ما تبدون وما تكتمون). . فالأمر معلق باطلاع الله على ظاهركم وخافيكم ; ورقابته لكم في سركم وعلانيتكم . وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب , وامتثالها لذلك الأدب العالي , الذي يأخذها الله به في كتابه , الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل في كل اتجاه .
إن القرآن منهاج حياة . فهو يحتفل بهذه الجزئية من الحياة الاجتماعية , ويمنحها هذه العناية , لأنه يعالج الحياة كليا وجزئيا , لينسق بين أجزائها وبين فكرتها الكلية العليا بهذا العلاج . فالاستئذان على البيوت يحقق للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكنا . ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة , والضيق بالمباغتة , والتأذي بانكشاف العورات . . وهي عورات كثيرة , تعني غير ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه اللفظة . . إنها ليست عورات البدن وحدها . إنما تضاف إليها عورات الطعام , وعورات اللباس , وعورات الأثاث , التي قد لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل وإعداد . وهي عورات المشاعر والحالات النفسية ,فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر , أو يغضب لشأن مثير , أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء ?!
ولكن كل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الأدب الرفيع , أدب الاستئذان ; ويرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة , التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات ; وطالما نشأت عنها علاقات ولقاءات , يدبرها الشيطان , ويوجهها في غفلة عن العيون الراعية , والقلوب الناصحة , هنا أو هناك !
ولقد وعاها الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه الآيات . وبدأ بها رسول الله - عليه الصلاة والسلام .
أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي عمر الأوزاعي - بإسناده - عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال:زارنا رسول الله [ ص ] في منزلنا فقال:" السلام عليكم ورحمة الله " فرد سعد ردا خفيا . قال قيس:فقلت:ألا تأذن لرسول الله [ ص ] ? فقال:دعه يكثر علينا من السلام . فقال رسول الله [ ص ] " السلام عليكم ورحمة الله " . فرد سعد ردا خفيا . ثم قال رسول الله [ ص ]:" السلام عليكم ورحمة الله " . ثم رجع رسول الله [ ص ] وأتبعه سعد فقال:يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام - فقال:فانصرف معه رسول الله [ ص ] وأمر له سعد بغسل فاغتسل ; ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس , فاشتمل بها , ثم رفع رسول الله [ ص ] يديه , وهو يقول:" اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة " . . . الخ الحديث .

وأخرج أبو داود - بإسناده - عن عبد الله بن بشر قال:كان رسول الله [ ص ] إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ; ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر , ويقول:" السلام عليكم . السلام عليكم " . ذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور .
وروى أبو داود كذلك - بإسناده - عن هذيل قال:جاء رجل - قال عثمان:سعد - فوقف على باب النبي [ ص ] يستأذن . فقام على الباب - قال عثمان:مستقبل الباب - فقال له النبي [ ص ]:" هكذا عنك - أو هكذا - فإنما الاستئذان من النظر .
وفي الصحيحين عن رسول الله [ ص ] أنه قال:" لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن , فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح " .
وروى أبو داود - بإسناده - عن ربعي قال:أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله [ ص ] وهو في بيته فقال:أألج ? فقال النبي [ ص ] لخادمه:" اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان , فقل له:قل:السلام عليكم . أأدخل ? " فسمعها الرجل فقال:السلام عليكم . أأدخل ? فأذن له النبي [ ص ] فدخل .
وقال هشيم:قال مغيرة:قال مجاهد:جاء ابن عمر من حاجة , وقد آذاه الرمضاء ; فأتى فسطاط امرأةمن قريش , فقال:السلام عليكم . أأدخل ? قالت:ادخل بسلام . فأعاد . فأعادت . وهو يراوح بين قدميه . قال:قولي:ادخل . قالت:ادخل . فدخل !
"وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس - رضي الله عنهما , قال:قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد ? قال:نعم . فرددت عليه ليرخص لي فأبى , فقال:تحب أن تراها عريانة ? قلت:لا . قال:فاستأذن . قال:فراجعته أيضا . فقال:أتحب أن تطيع الله ? قال:قلت:نعم . قال فاستأذن " .
وجاء في الصحيح عن رسول الله [ ص ] أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا . . وفي رواية:ليلا يتخونهم .
وفي حديث آخر أن رسول الله [ ص ] قدم المدينة نهارا , فأناخ بظاهرها وقال:" انتظروا حتى ندخل عشاء - يعني آخر النهار - حتى تمتشط الشعثة , وتستحد المغيبة " .
إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حس رسول الله [ ص ] وصحابته , بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء , المشرق بنور الله .
ونحن اليوم مسلمون , ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت . وإن الرجل ليهجم على أخيه في بيته , في أية لحظة من لحظات الليل والنهار , يطرقه ويطرقه ويطرقه فلا ينصرف أبدا حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له . وقد يكون في البيت هاتف "تليفون" يملك أن يستأذن عن طريقه , قبل أن يجيء , ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب ; ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان , وعلى غير موعد . ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت - وقد جاء - مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار ولا انتظار !
ونحن اليوم مسلمون , ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام . فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئا ! ونطرقهم في الليل المتأخر , فإن لم يدعونا إلى المبيت عندهم وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئا ! دون أن نقدر أعذارهم في هذا وذاك !
ذلك أننا لا نتأدب بأدب الإسلام ; ولا نجعل هوانا تبعا لما جاء به رسول الله [ ص ] إنما نحن عبيد لعرف خاطى ء , ما أنزل الله به من سلطان !
ونرى غيرنا ممن لم يعتنقوا الإسلام , يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون أدبا لنا في النفس , وتقليدا من تقاليدنا في السلوك . فيعجبنا ما نراهم عليه أحيانا ; ونتندر به أحيانا . ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل , فنفيء إليه مطمئنين .





تفسير سورة النور لسيد قطب




الدرس الثاني:30 - 31 غض البصر بين المؤمنين والمؤمنات وحدود العورة عند النساء
وبعد الانتهاء من أدب الاستئذان على البيوت - وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر واتقاء أسباب الفتنة العابرة - يأخذ على الفتنة الطريق كي لا تنطلق من عقالها , بدافع النظر لمواضع الفتنة المثيرة , وبدافع الحركة المعبرة , الداعية إلى الغواية:
(قل للمؤمنين:يغضوا من أبصارهم , ويحفظوا فروجهم , ذلك أزكى لهم . إن الله خبير بما يصنعون .)(وقل للمؤمنات:يغضضن من أبصارهن , ويحفظن فروجهن , ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ; وليضربن بخمرهن على جيوبهن , ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن , أو آبائهن , أو آباء بعولتهن , أو أبنائهن , أو أبناء بعولتهن , أو إخوانهن , أو بني إخوانهن , أو بني أخواتهن , أو نسائهن , أو ما ملكت أيمانهن , أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال , أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء . ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن . وتوبوا إلى الله جميعا - أيها المؤمنون - لعلكم تفلحون). .
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف , لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة , ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين . فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولايرتوي . والنظرة الخائنة , والحركة المثيرة , والزينة المتبرجة , والجسم العاري . . . كلها لا تصنع شيئا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون ! وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة . فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة ! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب !!!
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة , وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين , سليما , وبقوته الطبيعية , دون استثارة مصطنعة , وتصريفه في موضعه المأمون النظيف .
ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة , والحديث الطليق , والاختلاط الميسور , والدعابة المرحة بين الجنسين , والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة . . شاع أن كل هذا تنفيس وترويح , وإطلاق للرغبات الحبيسة , ووقاية من الكبت , ومن العقد النفسية , وتخفيف من حدة الضغط الجنسي , وما وراءه من اندفاع غير مأمون . . . الخ .
شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان , والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين ! - وبخاصة نظرية فرويد - ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية , رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتا من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والدينية والإنسانية , ما يكذبها وينقضها من الأساس .
نعم . شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي , والاختلاط الجنسي , بكل صوره وأشكاله , أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها . إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع ! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوما أنها لا تنشأ إلا من الحرمان , وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب , شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه . . ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد ; وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء ! وللأجسام العارية في الطريق , وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة , واللفتات الموقظة . وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد . مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود .
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي ; لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض ; وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها . فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود . وإثارته في كل حين تزيد من عرامته ; وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة . فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة .
وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة ! والنظرة تثير . والحركة تثير . والضحكة تثير . والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير . والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية , ثم يلبى تلبية طبيعية . . وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام . مع تهذيب الطبع , وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة , غير تلبية دافع اللحم والدم , فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد !
وفي الآيتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين:
(قل للمؤمنين:يغضوا من أبصارهم , ويحفظوا فروجهم . ذلك أزكى لهم . إن الله خبير بما يصنعون). .
وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي , ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام . كما أن فيه إغلاقا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية . ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم !
وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر . أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة , ويقظة الرقابة , والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى . ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة ; بوصفهما سببا ونتيجة ; أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع . كلتاهما قريب من قريب .
(ذلك أزكى لهم). . فهو أطهر لمشاعرهم ; وأضمن لعدم تلوثها بالانفعالات الشهوية في غير موضعها المشروع النظيف , وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط . وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها وأعراضها , وجوها الذي تتنفس فيه .
والله هو الذي يأخذهم بهذه الوقاية ; وهو العلم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري , الخبير بحركات نفوسهم وحركات جوارحهم: (إن الله خبير بما يصنعون). .
(وقل للمؤمنات:يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن). .
فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة , أو الهاتفة المثيرة , تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال . ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب , يلبي داعي الفطرة في جو نظيف , لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة !
(ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها). .
والزينة حلال للمرأة , تلبية لفطرتها . فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة , وأن تبدو جميلة . والزينة تختلف من عصر إلى عصر ; ولكن أساسها في الفطرة واحد , هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله , وتجليته للرجال .
والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية ; ولكنه ينظمها ويضبطها , ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد - هو شريك الحياة - يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه . ويشترك معه في الاطلاع على بعضها , المحارم والمذكورون في الآية بعد , ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع .
فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين , فيجوز كشفه . لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله [ ص ] لأسماء بنت أبي بكر:" يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض , لم يصلح أن يرى منها إلا هذا - وأشار إلى وجهه وكفيه " .
(وليضربن بخمرهن على جيوبهن). .
والجيب فتحة الصدر في الثوب . والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر . ليداري مفاتنهن , فلا يعرضها للعيون الجائعة ; ولا حتى لنظرة الفجاءة , التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها , ولكنها قد تترك كمينا في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة !
إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء !
والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي . وقلوبهن مشرقة بنور الله , لم يتلكأن في الطاعة , على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال . وقد كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة ! - تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء . وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها , وأقرطة أذنيها . فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن , ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها , كن كما قالت عائشة رضي الله عنها -:" يرحم الله نساء المهاجرات الأول . لما أنزل الله: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)شققن مروطهن فاختمرن بها . . وعن صفية - بنت شيبة قالت:بينما نحن عند عائشة . قالت:فذكرن نساء قريش وفضلهن . فقالت عائشة - رضي الله عنها - إن لنساء قريش لفضلا . وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار , وأشد تصديقا لكتاب الله , ولا إيمانا بالتنزيل . لما نزلت في سورة النور: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ; ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته , وعلى كل ذي قرابته . فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل , فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه . فأصبحن وراء رسول الله [ ص ] معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان " .
لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي , وطهر إحساسه بالجمال ; فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب , بل الطابع الإنساني المهذب . . وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان ; مهما يكن من التناسق والاكتمال . فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف , الذي يرفع الذوق الجمالي , ويجعله لائقا بالإنسان , ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال .
وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات . على الرغم من هبوط الذوق العام , وغلبة الطابع الحيواني عليه ; والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة ! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات , في مجتمع يتكشف ويتبرج , وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان !
هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة . . ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة . فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم:
الآباء والأبناء , وآباء الأزواج وأبناؤهم , والإخوة وأبناء الإخوة , وأبناء الأخوات . . كما يستثني النساء المؤمناتأو نسائهن)فأما غير المسلمات فلا . لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن , وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها . وفي الصحيحين:" لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها " . . أما المسلمات فهن أمينات , يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن جسم امرأة مسلمة وزينتها . . ويستثنيكذلك (ما ملكت أيمانهن)قيل من الإناث فقط , وقيل:ومن الذكور كذلك . لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته . والأول أولى , لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان , مهما يكن له من وضع خاص ; في فترة من الزمان . . ويستثني (التابعين غير أولي الإربة من الرجال). . وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون . . وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة . لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء . . ويستثني (الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء). . وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس . فإذا ميزوا , وثار فيهم هذا الشعور - ولو كانوا دون البلوغ - فهم غير داخلين في هذا الاستثناء .
وهؤلاء كلهم - عدا الأزواج - ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها , إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة . لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء . فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء .
ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء , فقد مضت الآية تنهي المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة , وتهيج الشهوات الكامنة , وتوقظ المشاعر النائمة . ولو لم يكشفن فعلا عن الزينة:
(ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن). .
وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها . فإن الخيال ليكون أحيانا أقوى في إثارة الشهوات من العيان . وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها , أو حليها , أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته . كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم , أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم - وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم - وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى العطر من بعيد , قد يثير حواس رجال كثيرين , ويهيج أعصابهم , ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها ردا . والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله . لأن منزله هو الذي خلق , وهو الذي يعلم من خلق . وهو اللطيف الخبير .
وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله ; ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن:
(وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون).
بذلك يثير الحساسية برقابة الله , وعطفه ورعايته , وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق , الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله , وبتقواه . .
الدرس الثالث:32 - 33 الحث على التزويج والمنع من البغاء
وإلى هنا كان علاج المسألة علاجا نفسيا وقائيا . ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة , لا بد من مواجهتها بحلول واقعية إيجابية . . هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج , والمعاونة عليه ; مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة الجنسية أو إغلاقها نهائيا:
وأنكحوا الأيامى منكم , والصالحين من عبادكم وإمائكم . إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله . والله واسع عليم . وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله . والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم - إن علمتم فيهم خيرا - وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ; ولا تكرهوا فتيانكم على البغاء - إن أردن تحصنا - لتبتغوا عرض الحياة الدنيا . ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم . .
إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية . وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة .
فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج , لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها . والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت , وتحصين النفوس . والإسلام نظام متكامل , فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها , وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء . فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدا غير مضطر .
لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال:

(وأنكحوا الأيامى منكم , والصالحين من عبادكم وإمائكم . إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). .
والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين . . والمقصود هنا الأحرار . وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك: (والصالحين من عبادكم وإمائكم).
وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). .
وهذا أمر للجماعة بتزويجهم . والجمهور على أن الأمر هنا للندب . ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله [ ص ] لم يزوجوا . ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم . ونحن نرى أن الأمر للوجوب , لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج ; ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج , وتمكينهم من الإحصان , بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية , وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة . وهو واجب . ووسيلة الواجب واجبة .
وينبغي أن نضع في حسابنا - مع هذا - أن الإسلام - بوصفه نظاما متكاملا - يعالج الأوضاع الاقتصادية علاجا أساسيا ; فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب , وتحصيل الرزق , وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال . ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات . . فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله . وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقا على الدولة واجبا للأفراد . أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام .
فإذا وجد في المجتمع الإسلامي - بعد ذلك - أيامى فقراء وفقيرات , تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج , فعلى الجماعة أن تزوجهم . وكذلك العبيد والإماء . غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين .
ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقا عن التزويج - متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالا ونساء - فالرزق بيد الله . وقد تكفل الله بإغنائهم , إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). وقال رسول الله [ ص ]:" ثلاثة حق على الله عونهم:المجاهد في سبيل الله , والمكاتب الذي يريد الأداء , والناكح الذي يريد العفاف " .
وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله). . (والله واسع عليم). . لا يضيق على من يبتغي العفة , وهو يعلم نيته وصلاحه .
وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية ; فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج ; ولو كان عاجزا من ناحية المال . والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الإحصان .
ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي , وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية . وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين . لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة . حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله , فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته . وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته:
(والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم . إن علمتم فيهم خيرا). .
وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب . ونحن نراه الأولى ; فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية . ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له , وأجر عمله له , ليوفي منه ما كاتب عليه ; ويجب له نصيب في الزكاة:
(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم). ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا . والخير هو الإسلام أولا . ثم هو القدرة على الكسب . فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره . وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش , ويكسب ما يقيم أوده . والإسلام نظام تكافل . وهو كذلك نظام واقع . فليس المهم أن يقال:إن الرقيق قد تحرر . وليست العنوانات هي التي تهمه . إنما تهمه الحقيقة الواقعة . ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه ; فلم يكن كلا على الناس ; ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها , ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى , وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد ; بما هو أشد وأنكى .
وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة , احتراف بعض الرقيق للبغاء . وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني ; وجعل عليها ضريبة يأخذها منها - وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم - فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة ; وخص هذه الحالة بنص خاص:
(ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء . إن أردن تحصنا . لتبتغوا عرض الحياة الدنيا . ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم).
فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر , ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث . ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة , بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه .
قال السدي:أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول , رأس المنافقين , وكانت له جارية تدعى معاذة . وكان إذ نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها , إرادة الثواب منه , والكرامة له . فأقبلت الجارية إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فشكت إليه ذلك ; فذكره أبو بكر للنبي [ ص ] فأمره بقبضها . فصاح عبد الله بن أبي:من يعذرنا من محمد ? يغلبنا على مملوكتنا ! فأنزل الله فيهم هذا .
هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء - وهن يردن العفة - ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية , وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي . ذلك أن وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولته ; ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف .
ولا عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن , يحمي البيوت الشريفة ; لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج . أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض المصونة , إن لم تجد هذا الكلأ المباح !
إن في التفكير على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج . فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة . وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج . فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجا خاصا . . وبذلك لا تحتاج إلى البغاء , وإلى إقامة مقاذر إنسانية , يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس , فيلقي فيها بالفضلات , تحت سمع الجماعة وبصرها !
إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج , بحيث لا تخرج مثل هذا النتن . ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة , في صور آدمية ذليلة .
وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف , الذي يصل الأرض بالسماء , ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله .
الدرس الرابع:34 طبيعة هذا القرآن
ويعقب على هذا الشوط بصفة القرآن التي تناسب موضوعه وجوه:
(ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات , ومثلا من الذين خلوا من قبلكم , وموعظة للمتقين). .
فهو آيات مبينات , لا تدع مجالا للغموض والتأويل , والانحراف عن النهج القويم .
وهو عرض لمصائر الغابرين الذين انحرفوا عن نهج الله فكان مصيرهم النكال .
وهو موعظة للمتقين الذين تستشعر قلوبهم رقابة الله فتخشى وتستقيم .
والأحكام التي تضمنها هذا الشوط تتناسق مع هذا التعقيب , الذي يربط القلوب بالله , الذي نزل هذا القرآن . .
الوحدة الثالثة:35 - 45
الموضوع:نور الله وبيوت الله وتسبيح المخلوقات لله وخسارة أعمال الكفار
الدرس الأول:35 - 38 نور الله وبيوت الله وصفات جنود الله
في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري . ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى آفاق النور . عالج عرامة اللحم والدم , وشهوة العين والفرج , ورغبة التجريح والتشهير , ودفعة الغضب والغيظ . وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة , وأن تشيع في القول . عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف . وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات . وعالجها بالوسائل الواقية:بالاستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة , والنهي عن مثيرات الفتنة , وموقظات الشهوة . ثم بالإحصان , ومنع البغاء , وتحرير الرقيق . . كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم , ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق .
وفي أعقاب حديث الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ , ومن اضطراب في المقاييس , وقلق في النفوس . فإذا نفس محمد - رسول الله [ ص ] - مطمئنة هادئة . وإذا نفس عائشة - رضي الله عنها - قريرة راضية . وإذا نفس أبي بكر - رضي الله عنه - سمحة صافية . وإذا نفس صفوان بن المعطل - رضي الله عنه - قانعة بشهادة الله وتبرئته . وإذا نفوس المسلمين آيبة تائبة . وقد تكشف لها ما كانت تخبط فيه من التيه . فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته . .
بهذا التعليم . وهذا التهذيب . وهذا التوجيه . عالج الكيان البشري , حتى أشرق بالنور ; وتطلع إلى الأفق الوضيء ; واستشرق النور الكبير في آفاق السماوات والأرض , وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل الغامر في عالم كله إشراق , وكله نور:
(الله نور السماوات والأرض). .
وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء , فيغمر الكون كله , ويفيض على المشاعر والجوارح , وينسكب في الحنايا والجوانح ; وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر ; وحتى تعانقهوترشفه العيون والبصائر ; وحتى تنزاح الحجب , وتشف القلوب , وترف الأرواح . ويسبح كل شيء في الفيض الغامر , ويتطهر كل شيء في بحر النور , ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله , فإذا هو انطلاق ورفرفة , ولقاء ومعرفة , وامتزاج وألفة , وفرح وحبور . وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود , تتصل فيه السماوات بالأرض , والأحياء بالجماد , والبعيد بالقريب ; وتلتقي فيه الشعاب والدروب , والطوايا والظواهر , والحواس والقلوب . .
(الله نور السماوات والأرض). .
النور الذي منه قوامها ومنه نظامها . . فهو الذي يهبها جوهر وجودها , ويودعها ناموسها . . ولقد استطاع البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى , عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة - بعد تحطيم الذرة - إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور ! ولا "مادة " لها إلا النور ! فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونيات , تنطلق - عند تحطيمها - في هيئة إشعاع قوامه هو النور ! فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون . كان يدركها كلما شف ورف , وانطلق إلى آفاق النور . ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله [ ص ] ففاض بها وهو عائد من الطائف , نافض كفيه من الناس , عائذ بوجه ربه يقول:" أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات , وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة " . وفاض بها في رحلة الإسراء والمعراج . فلما سألته عائشة:هل رأيت ربك ? قال . " نور . أنى أراه " .
ولكن الكيان البشري لا يقوى طويلا على تلقي ذلك الفيض الغامر دائما , ولا يستشرف طويلا ذلك الأفق البعيد . فبعد أن جلا النص هذا الأفق المترامي , عاد يقارب مداه , ويقربه إلى الإدراك البشري المحدود , في مثل قريب محسوس:
مثل نوره كمشكاة فيها مصباح . المصباح في زجاجة . الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية , يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار . نور على نور . .

وهو مثل يقرب للإدراك المحدود صورة غير المحدود ; ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس , حين يقصر عن تملي الأصل . وهو مثل يقرب للإدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير .
ومن عرض السماوات والأرض إلى المشكاة . وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة , يوضع فيها المصباح , فتحصر نوره وتجمعه , فيبدو قويا متألقا: (كمشكاة فيها مصباح). . (المصباح في زجاجة). . تقيه الريح , وتصفي نوره , فيتألق ويزداد . . (الزجاجة كأنها كوكب دري). . فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة . . هنا يصل بين المثل والحقيقة . بين النموذج والأصل . حين يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير , كي لا ينحصر التأمل في النموذج الصغير , الذي ما جعل إلا لتقريب الأصل الكبير . . وبعد هذه اللفتة يعود إلى النموذج . إلى المصباح:
(يوقد من شجرة مباركة زيتونة)ونور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون . ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذا المثل . إنما هو كذلك الظلال المقدسة التي تلقيها الشجرة المباركة . ظلال الوادي المقدس في الطور , وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب . وفي القرآن إشارة لها وظلال حولهاوشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين). وهي شجرة معمرة , وكل ما فيها مما ينفع الناس . زيتها وخشبهاوورقها وثمرها . . ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالأصل الكبير . فهذه الشجرة ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة . إنما هي مثل مجرد للتقريب: (لا شرقية ولا غربية). . وزيتها ليس زيتا من هذا المشهود المحدود , إنما هو زيت آخر عجيب: (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار). . فهو من الشفافية بذاته , ومن الإشراق بذاته , حتى ليكاد يضيء بغير احتراق ; (ولو لم تمسسه نار). . (نور على نور). . وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف !
إنه نور الله الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والأرض . النور الذي لا ندرك كنهه ولا مداه . إنما هي محاولة لوصل القلوب به , والتطلع إلى رؤياه: (يهدي الله لنوره من يشاء). . ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه . فهو شائع في السماوات والأرض , فائض في السماوات والأرض . دائم في السماوات والأرض . لا ينقطع , ولا يحتبس , ولا يخبو . فحيثما توجه إليه القلب رآه . وحيثما تطلع إليه الحائر هداه . وحيثما اتصل به وجد الله .
إنما المثل الذي ضربه الله لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك , وهو العليم بطاقة البشر:
(ويضرب الله الأمثال للناس , والله بكل شيء عليم). .
ذلك النور الطليق , الشائع في السماوات والأرض الفائض في السماوات والأرض , يتجلى ويتبلور في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله , تتطلع إليه وتذكره وتخشاه , وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة:
(في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه , يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة . يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار . ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله , والله يرزق من يشاء بغير حساب). .
وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا , على طريقة التناسق القرآنية في عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه أو المتقارب . وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة , والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله .
تلك البيوت (أذن الله أن ترفع)- وإذن الله هو أمر للنفاذ - فهي مرفوعة قائمة , وهي مطهرة رفيعة . يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والأرض . وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء . وتتهيأ بالرفعة والارتفاع لأن يذكر فيها اسم اللهويذكر فيها اسمه). وتتسق معها القلوب الوضيئة الطاهرة , المسبحة الواجفة , المصلية الواهبة . قلوب الرجال الذين (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة). . والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء . ولكنهم مع شغلهم بهما لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة , وأداء حق العباد في الزكاة: (يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار). . تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب . وهم يخافون ذلك اليوم فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .
وهم مع هذا الخوف يعلقون رجاءهم بثواب الله:
(ليجزيهم الله أحسن ما عملوا , ويزيدهم من فضله). .
ورجاؤهم لن يخيب في فضل الله: (والله يرزق من يشاء بغير حساب)من فضله الذي لا حدود له ولا قيود .
الدرس الثاني:39 - 40 خسارة أعمال الكافر
في مقابل ذلك النور المتجلي في السماوات والأرض , المتبلور في بيوت الله , المشرق في قلوب أهل الإيمان . . يعرض السياق مجالا آخر . مجالا مظلما لا نور فيه . مخيفا لا أمن فيه . ضائعا لا خير فيه . ذلك هو مجال الكفر الذي يعيش فيه الكفار:
(والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة , يحسبه الظمآن ماء , حتى إذا جاءه لم يجده شيئا , ووجد الله عنده فوفاه حسابه . والله سريع الحساب . أو كظلمات في بحر لجي , يغشاه موج من فوقه موج , من فوقه سحاب . ظلمات بعضها فوق بعض , إذا أخرج يده لم يكد يراها . ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور). .
والتعبير يرسم لحال الكافرين ومآلهم مشهدين عجيبين , حافلين بالحركة والحياة .
في المشهد الأول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة , يلتمع التماعا كاذبا , فيتبعه صاحبه الظامى ء , وهو يتوقع الري غافلا عما ينتظره هناك . . وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة . فهذا السائر وراء السراب , الظامىء الذي يتوقع الشراب , الغافل عما ينتظره هناك . . يصل . فلا يجد ماء يرويه , إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال , المرعبة التي تقطع الأوصال , وتورث الخبالووجد الله عنده)! الله الذي كفر به وجحده , وخاصمه وعاداه . وجده هنالك ينتظره ! ولو وجد في هذه المفاجأة خصما له من بني البشر لروعه , وهو ذاهل غافل على غير استعداد . فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار ?
(فوفاه حسابه). . هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة , (والله سريع الحساب). . تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع !
وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب ; ويتمثل الهول في ظلمات البحر اللجي . موج من فوقه موج . من فوقه سحاب . وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض , حتى ليخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام !
إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون . وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى . ومخافة لا أمن فيها ولا قرار . . (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور). . ونور الله هدى في القلب ; وتفتح في البصيرة ; واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض ; والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض . فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة لا انكشاف لها , وفي مخالفة لا أمن فيها , وفي ضلال لا رجعة منه . ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب ; لأنه لا عمل بغير عقيدة , ولا صلاح بغير إيمان . إن هدى الله هو الهدى . وإن نور الله هو النور .
الدرس الثالث:41 - 42 تسبيح المخلوقات لله وملكية الله للوجود
ذلك مشهد الكفر والضلال والظلام في عالم الناس , يتبعه مشهد الإيمان والهدى والنور في الكون الفسيح . مشهد يتمثل فيه الوجود كله , بمن فيه وما فيه , شاخصا يسبح لله:إنسه وجنه , أملاكه وأفلاكه , أحياؤه وجماده . . وإذا الوجود كله تتجاوب بالتسبيح أرجاؤه , في مشهد يرتعش له الوجدان حين يتملاه:
(ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض , والطير صافات . كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون). .
إن الإنسان ليس مفردا في هذا الكون الفسيح ; فإن من حوله , وعن يمينه وعن شماله , ومن فوقه ومن تحته ; وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال . . إخوان له من خلق الله , لهم طبائع شتى , وصور شتى , وأشكال شتى . ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله , ويتوجهون إليه , ويسبحون بحمده: (والله عليم بما يفعلون). .
والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر فيما حوله من صنع الله , وإلى من حوله من خلق الله في السماوات والأرض , وهم يسبحون بحمده وتقواه ; ويوجه بصره وقلبه خاصة إلى مشهد في كل يوم يراه , فلا يثير انتباهه ولا يحرك قلبه لطول ما يراه . ذلك مشهد الطير صافات أرجلها وهي طائرة في الفضاء تسبح بحمد اللهكل قد علم صلاته وتسبيحه). . والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه ; وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح والصلاة .
وإن الكون ليبدو في هذا المشهد الخاشع متجها كله إلى خالقه , مسبحا بحمده , قائما بصلاته ; وإنه لكذلك في فطرته , وفي طاعته لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه . وإن الإنسان ليدرك - حين يشف - هذا المشهد ممثلا في حسه كأنه يراه ; وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح لله . وإنه ليشارك كل كائن في هذا الوجود صلاته ونجواه . . كذلك كان محمد بن عبد الله - صلاة الله وسلامه عليه - إذا مشى سمع تسبيح الحصى تحت قدميه . وكذلك كان داود - عليه السلام - يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير .
(ولله ملك السماوات والأرض , وإلى الله المصير). .
فلا اتجاه إلا إليه , ولا ملجأ من دونه , ولا مفر من لقائه , ولا عاصم من عقابه , وإلى الله المصير .
الدرس الرابع:43 مشهد المطر والسحاب
ومشهد آخر من مشاهد هذا الكون التي يمر عليها الناس غافلين ; وفيها متعة للنظر , وعبرة للقلب , ومجال للتأمل في صنع الله وآياته , وفي دلائل النور والهدى والإيمان:
ألم تر أن الله يزجي سحابا , ثم يؤلف بينه , ثم يجعله ركاما , فترى الودق يخرج من خلاله . وينزل من السماء من جبال فيها من برد , فيصيب به من يشاء , ويصرفه عمن يشاء , يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار . .
والمشهد يعرض على مهل وفي إطالة , وتترك أجزاؤه للتأمل قبل أن تلتقي وتتجمع . كل أولئك لتؤدي الغرض من عرضها في لمس القلب وإيقاظه , وبعثه إلى التأمل والعبرة , وتدبر ما وراءها من صنع الله .
إن يد الله تزجي السحاب وتدفعه من مكان إلى مكان . ثم تؤلف بينه وتجمعه , فإذا هو ركام بعضه فوق بعض . فإذا ثقل خرج منه الماء , والوبل الهاطل , وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة , فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة . . ومشهد السحب كالجبال لا يبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها , فإذا المشهد مشهد الجبال حقا , بضخامتها , ومساقطها , وارتفاعاتها وانخفاضاتها . وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس , إلا بعد ما ركبوا الطائرات .
وهذه الجبال مسخرة بأمر الله , وفق ناموسه الذي يحكم الكون ; ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء , ويصرفه عمن يشاء . . وتكملة المشهد الضخميكاد سنا برقه يذهب بالأبصار)ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض , على طريقة التناسق في التصوير .
الدرس الخامس:44 تقليب الليل والنهار
ثم مشهد كوني ثالث:مشهد الليل والنهار:
(يقلب الله الليل والنهار . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار). .
والتأمل في تقلب الليل والنهار بهذا النظام الذي لا يختل ولا يفتر يوقظ في القلب الحساسية وتدبر الناموس الذي يصرف هذا الكون والتأمل في صنع الله . والقرآن يوجه القلب إلى هذه المشاهد التي ذهبت الألفة بوقعها المثير ; ليواجه القلب هذا الكون دائما بحس جديد , وانفعال جديد . فعجيبة الليل والنهار كم شاقت القلب البشري , وهو يتأملها أول مرة . وهي هي لم تتغير ; ولم تفقد جمالها وروعتها . إنما القلب البشري هو الذي صدىء وهمد , فلم يعد يخفق لها . وكم ذا نفقد من حياتنا , وكم ذا نخسر من جمال هذا الوجود , حين نمر غافلين بهذه الظواهر التي شاقت حسنا وهي جديدة . أو وحسنا هو الجديد !
والقرآن يجدد حسنا الخامد , ويوقظ حواسنا الملول . ويلمس قلبنا البارد . ويثير وجداننا الكليل ; لنرتاد هذا الكون دائما كما ارتدناه أول مرة . نقف أمام كل ظاهرة نتأملها , ونسألها عما وراءها من سر دفين , ومن سحر مكنون . ونرقب يد الله تفعل فعلها في كل شيء من حولنا , ونتدبر حكمته في صنعته , ونعتبر بآياته المبثوثة في تضاعيف الوجود .
إن الله - سبحانه - يريد أن يمن علينا , بأن يهبنا الوجود مرة كلما نظرنا إلى إحدى ظواهره ; فاستعدنا نعمة الإحساس بها كأننا نراها أول مرة . فنظل نجد الكون مرات لا تحصى . وكأننا في كل مرة نوهبه من جديد ; ونستمتع به من جديد .
وإن هذا الوجود لجميل وباهر ورائع . وإن فطرتنا لمتوافقة مع فطرته , مستمدة من النبع الذي يستمد منه , قائمة على ذات الناموس الذي يقوم عليه . فالاتصال بضمير هذا الوجود يهبنا أنسا وطمأنينة , وصلة ومعرفة , وفرحة كفرحة اللقاء بالقريب الغائب أو المحجوب !

وإننا لنجد نور الله هناك . فالله نور السماوات والأرض . . نجده في الآفاق وفي أنفسنا في ذات اللحظة التي نشهد فيها هذا الوجود بالحس البصير , والقلب المتفتح , والتأمل الواصل إلى حقيقة التدبير .
لهذا يوقظنا القرآن المرة بعد المرة , ويوجه حسنا وروحنا إلى شتى مشاهد الوجود الباهرة , كي لا نمر عليها غافلين مغمضي الأعين , فنخرج من رحلة الحياة على ظهر هذه الأرض بغير رصيد . أو برصيد قليل هزيل . .
الدرس السادس:45 إعجاز الله في الكون وفي مخلوقاته
ويمضي السياق في عرض مشاهد الكون , واستثارة تطلعنا إليها ; فيعرض نشأة الحياة , من أصل واحد , وطبيعة واحدة , ثم تنوعها , مع وحدة النشأة والطبيعة:
(والله خلق كل دابة من ماء . فمنهم من يمشي على بطنه , ومنهم من يمشي على رجلين , ومنهم من يمشي على أربع . يخلق الله ما يشاء . إن الله على كل شيء قدير). .
وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة , حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء , قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا , وهو الماء , وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء . ثم تنوعت الأنواع , وتفرعت الأجناس . .
ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل . . لا نزيد على هذه الإشارة شيئا . مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية . وهي أن الله خلق الأحياء كلها من الماء . فهي ذات أصل واحد . ثم هي - كما ترى العين - متنوعة الأشكال . منها الزواحف تمشي على بطنها , ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين . ومنها الحيوان يدب على أربع . كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته , لا عن فلتة ولا مصادفة: يخلق الله ما يشاء غير مقيد بشكل ولا هيئة . فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها: (إن الله على كل شيء قدير).
وإن تملي الأحياء . وهي بهذا التنوع في الأشكال والأحجام , والأصول والأنواع , والشيات والألوان . وهي خارجة من أصل واحد , ليوحي بالتدبير المقصود , والمشيئة العامدة . وينفي فكرة الفلتة والمصادفة . وإلا فأي فلتة تلك التي تتضمن كل هذا التدبير ; وأية مصادفة تلك التي تتضمن كل هذا التقدير ? إنما هو صنع الله العزيز الحكيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . .
الوحدة الرابعة:46 - 57
الموضوع:التقابل بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين والتمكين للمؤمنين
موضوع الوحدة
بعد تلك الجولة الضخمة في مجالي النور , في مشاهد الكون الكبير . . يعود سياق السورة إلى موضوعهاالأصيل . موضوع الآداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة , لتتطهر قلوبها وتشرق , وتتصل بنور الله في السماوات والأرض .
ولقد تناول في الدرس الماضي حديث الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة . وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم , وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض .
فالآن في هذا الدرس يتحدث عن المنافقين , الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون . فهم يظهرون الإسلام , ولكنهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله [ ص ] وفي الرضى بحكمه , والطمأنينة إليه . ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم . أولئك الذين وعدهم الله الاستخلاف في الأرض , والتمكين في الدين , والأمن في المقام , جزاء لهم على أدبهم مع الله ورسوله . وطاعتهم لله ورسوله . وذلك على الرغم من عداء الكافرين . وما الذين كفروا بمعجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس المصير . .
الدرس الأول:46 - 53 رفض المنافقين حكم الله وقبول المؤمنين ذلك
(لقد أنزلنا آيات مبينات . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). .
فآيات الله مبينة كاشفة ; تجلو نور الله , وتكشف عن ينابيع هداه . وتحدد الخير والشر , والطيب والخبيث . وتبين منهج الإسلام في الحياة كاملا دقيقا لا لبس فيه ولا غموض ; وتحدد أحكام الله في الأرض بلا شبهة ولا إبهام . فإذا تحاكم الناس إليها فإنما يتحاكمون إلى شريعة واضحة مضبوطة , لا يخشى منها صاحب حق على حقه ; ولا يلتبس فيها حق بباطل , ولا حلال بحرام .
(والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). . والمشيئة مطلقة لا يقيدها قيد . غير أن الله سبحانه قد جعل للهدى طريقا , ومن وجه نفسه إليه وجد فيه هدى الله ونوره , فاتصل به , وسار على الدرب , حتى يصل - بمشيئة الله - ومن حاد عنه وأعرض فقد النور الهادي ولج في طريق الضلال . حسب مشيئة الله في الهدى والضلال .
ومع هذه الآيات المبينات يوجد ذلك الفريق من الناس . فريق المنافقين , الذين كانوا يظهرون الإسلام ولا يتأدبون بأدب الإسلام:
(ويقولون:آمنا بالله وبالرسول وأطعنا . ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك . وما أولئك بالمؤمنين . وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين . أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? بل أولئك هم الظالمون). .
إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك . والإسلام عقيدة متحركة , لا تطيق السلبية . فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج ; ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع . ومنهج الإسلام الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية ; وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون . مع استحياء الدافع الشعوري الأول في كل حركة , لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل .
وهؤلاء كانوا يقولون: (آمنا بالله وبالرسول وأطعنا). . يقولونها بأفواههم , ولكن مدلولها لا يتحقق في سلوكهم . فيتولون ناكصين ; يكذبون بالأعمال ما قالوه باللسان: (وما أولئك بالمؤمنين)فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم . والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها ; ثم يدعها ويمضي . إنما هو تكيف في النفس , وانطباع في القلب , وعمل في الواقع , ثم لا تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير . .
ولقد كان هؤلاء الذين يدعون الإيمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله [ ص ] على شريعة الله التي جاء بها:
(وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين). .
فلقد كانوا يعلمون أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق , ولا ينحرف مع الهوى , ولا يتأثر بالمودة والشنآن . وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل . ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله [ ص ] ويأبون أن يجيئوا إليه . فأما إذا كانوا أصحاب حق في قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول الله , راضين خاضعين , لأنهم واثقون أنهم سيقضي لهم بحقهم , وفق شريعة الله , التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق .
هذا الفريق الذي كان يدعي الإيمان , ثم يسلك هذا السلوك الملتوي , إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان . المنافقين الذي لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر , فيتظاهرون بالإسلام . ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله , ولا أن يحكم فيهم قانونه , فإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا المعاذير (وما أولئك بالمؤمنين)فما يستقيم الإيمان وإباء حكم الله ورسوله . إلا أن تكون لهم مصلحة في أن يتحاكموا إلى شريعة الله أو يحكموا قانونه !
إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق . وهو المظهر الذي ينبى ء عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب . وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله . وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سييء الأدب معتم , لم يتأدب بأدب الإسلام , ولم يشرق قلبه بنور الإيمان .
ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم , وتتعجب من ريبتهم , وتستنكر تصرفهم الغريب:
(أفي قلوبهم مرض ? أم ارتابوا ? أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ?). .
والسؤال الأول للإثبات . فمرض القلب جدير بأن ينشى مثل هذا الأثر . وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة . إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها , فلا تتذوق حقيقة الإيمان , ولا تسير على نهجه القويم .
والسؤال الثاني للتعجب . فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان ? هل هم يشكون في مجيئه من عند الله ? أو
هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل ? على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين !

والسؤال الثالث للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب . فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ? وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان . فالله خالق الجميع ورب الجميع . فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه ?
إن حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف . لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحدا . وكل خلقه أمامه سواء , فلا يظلم أحد منهم لمصلحة أحد . وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف . فالبشر لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم . أفرادا كانوا أم طبقة أم دولة .
وحين يشرع فرد ويحكم فلا بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه . وكذلك حين تشرع طبقة لطبقة , وحين تشرع دولة لدولة . أو كتلة من الدول لكتلة . . فأما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة .إنما هي العدالة المطلقة , التي لا يطيقها تشريع غير تشريع الله , ولا يحققها حكم غير حكمه .
من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون , الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر ; ولا يحبون للحق أن يسود . فهم لا يخشون في حكم الله حيفا , ولا يرتابون في عدالته أصلا (بل أولئك هم الظالمون). .
فأما المؤمنون حقا فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله . ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ; هو القول الذي يليق بالمؤمنين ; وينبى ء عن إشراق قلوبهم بالنور:
(إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا:سمعنا وأطعنا . وأولئك هم المفلحون). .
فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف . السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى ; النابعان من التسليم المطلق لله , واهب الحياة , المتصرف فيها كيف يشاء ; ومن الاطمئنان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم . فالله الذي خلق أعلم بمن خلق . .
(وأولئك هم المفلحون). . المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بعلمه وعدله ; فلا بد أن يكونوا خيرا ممن يدبر أمورهم , وينظم علاقاتهم , ويحكم بينهم بشر مثلهم , قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلا . . والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد , لا عوج فيه ولا التواء , مطمئنون إلى هذا المنهج , ماضون فيه لا يتخبطون , فلا تتوزع طاقاتهم , ولا يمزقهم الهوى كل ممزق , ولا تقودهم الشهوات والأهواء . والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم .
(ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون). .
وقد كان الحديث في الآية السابقة عن الطاعة والتسليم في الأحكام . فالآن يتحدث عن الطاعة كافة في كل أمر أو نهي , مصحوبة هذه الطاعة بخشية الله وتقواه . والتقوى أعم من الخشية , فهي مراقبة الله والشعور به عند الصغيرة والكبيرة ; والتحرج من إتيان ما يكره توقيرا لذاته سبحانه , وإجلالا له , وحياء منه , إلى جانب الخوف والخشية .
ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون , الناجون في دنياهم وأخراهم . وعد الله ولن يخلف الله وعده . وهم للفوز أهل , ولديهم أسبابه من واقع حياتهم . فالطاعة لله ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة , وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة . وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على النهج , وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه , فلا ينحرفون ولا يلتفتون .
وأدب الطاعة لله ورسوله , مع خشية الله وتقواه , أدب رفيع , ينبىء عن مدى إشراق القلب بنور الله , واتصاله به , وشعوره بهيبته . كما ينبىء عن عزة القلب المؤمن واستعلائه . فكل طاعة لا ترتكن على طاعة الله ورسوله , ولا تستمد منها , هي ذلة يأباها الكريم , وينفر منها طبع المؤمن , ويستعلي عليها ضميره . فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار .
وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين , وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان , وما هم بمؤمنين , بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين:
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن . قل:لا تقسموا . طاعة معروفة . إن الله خبير بما تعملون . قل:أطيعوا الله وأطيعوا الرسول . فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم . وإن تطيعوه تهتدوا . وما على الرسول إلا البلاغ المبين). .
ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول الله [ ص ] لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن والله يعلم إنهم لكاذبون . فهو يرد عليهم متهكما , ساخرا من أيمانهم . (قل:لا تقسموا . طاعة معروفة). . لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها , مفروغ منها , لا تحتاج إلى حلف أو توكيد ! كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور به:لا تحلف لي على صدقك . فهو مؤكد ثابت لا يحتاج إلى دليل .
ويعقب على التهكم الساخر بقوله: (إن الله خبير بما تعملون). . فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد , وقد علم أنكم لا تطيعون ولا تخرجون !
لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة . الطاعة الحقيقية . لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة !
(قل:أطيعوا الله وأطيعوا الرسول). .
(فإن تولوا)وتعرضوا , أو تنافقوا ولا تنفذوا (فإنما عليه ما حمل)من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه (وعليكم ما حملتم)وهو أن تطيعوا وتخلصوا . وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه: (وإن تطيعوه تهتدوا)إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح . (وما على الرسول إلا البلاغ المبين)فليس مسؤولا عن إيمانكم , وليس مقصرا إذا أنتم توليتم . إنما أنتم المسؤولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول .
الدرس الثاني:55 - 57 وعد المؤمنين بالتمكين وانتصار الدين
وبعد استعراض أمر المنافقين , والانتهاء منه على هذا النحو . . يدعهم السياق وشأنهم , ويلتفت عنهم إلى المؤمنين المطيعين , يبين جزاء الطاعة المخلصة , والإيمان العامل , في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير:
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ; وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ; وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا . يعبدونني لا يشركون بي شيئا . ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون). .
ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد [ ص ] أن يستخلفهم في الأرض . وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا . . ذلك وعد الله . ووعد الله حق . ووعد الله واقع . ولن يخلف الله وعده . . فما حقيقة ذلك الإيمان ? وما حقيقة هذا الاستخلاف ?
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله ; وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله ; لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله ; وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة , لا يبقى معها هوى في النفس , ولا شهوة في القلب , ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله [ ص ] من عند الله .
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله , بخواطر نفسه , وخلجات قلبه . وأشواق روحه , وميول فطرته , وحركات جسمه , ولفتات جوارحه , وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا . . يتوجه بهذا كله إلى الله . . يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمنيعبدونني لا يشركون بي شيئا)والشرك مداخل وألوان , والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله .
ذلك الإيمان منهج حياة كامل , يتضمن كل ما أمر الله به , ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب , وإعداد العدة , والأخذ بالوسائل , والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض . . أمانة الاستخلاف . .
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض ?
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم . . إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض , اللائق بخليقة أكرمها الله .
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح , لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة , لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري , لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله ; ويقرروا العدل الذي أراده الله ; ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . . فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض , وينشرون فيها البغي والجور , وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . . فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه , أو مبتلى بهم غيرهم , ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله .
آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم). . وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب , كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض , وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح , ويأمر بالعدل , ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . ويأمر بعمارة هذه الأرض , والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة , ومن رصيد , ومن طاقة , مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله .
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا). . ولقد كانوا خائفين , لا يأمنون , ولا يضعون سلاحهم أبدا حتى بعد هجرة الرسول [ ص ] إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة .
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية:كان النبي [ ص ] وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده , وإلى عبادته وحده بلا شريك له , سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ; حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة , فقدموها , فأمرهم الله بالقتال , فكانوا بها خائفين , يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح ; فصبروا على ذلك ما شاء الله . ثم إن رجلا من الصحابة قال:يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ? أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ? فقال رسول الله [ ص ] عليه وسلم - " لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة " . وأنزل الله هذه الآية , فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب , فأمنوا ووضعوا السلاح . ثم إن الله قبض نبيه [ ص ] فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان . حتى وقعوا فيما وقعوا فيه , فأدخل الله عليهم الخوف ; فاتخذوا الحجزة والشرط , وغيروا فغير بهم . .
(ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون). . الخارجون على شرط الله . ووعد الله . وعهد الله . .
لقد تحقق وعد الله مرة . وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئا). . لا من الآلهة ولا من الشهوات . ويؤمنون - من الإيمان - ويعملون صالحا . ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة . إنما يبطى ء النصر والاستخلاف والتمكين والأمن . لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة ; أو في تكليف من تكاليفه الضخمة ; حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء , وجازت الابتلاء , وخافت فطلبت الأمن , وذلت فطلبت العزة , وتخلفت فطلبت الاستخلاف . . كل ذلك بوسائله التي أرادها الله , وبشروطه التي قررها الله . . تحقق وعد الله الذي لا يتخلف , ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا .
لذلك يعقب على هذا الوعد بالأمر بالصلاة والزكاة والطاعة , وبألا يحسب الرسول [ ص ] وأمته حسابا لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم:
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة , وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون . لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض . ومأواهم النار ولبئس المصير). .
فهذه هي العدة . . الاتصال بالله , وتقويم القلب بإقامة الصلاة . والاستعلاء على الشح , وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة . وطاعة الرسول والرضى بحكمه , وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة , وتحقيق النهج الذي أراده للحياة:
(لعلكم ترحمون)في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال , وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال .
فإذا استقمتم على النهج , فلا عليكم من قوة الكافرين . فما هم بمعجزين في الأرض , وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق . وأنتم أقوياء بإيمانكم , أقوياء بنظامكم , أقوياء بعدتكم التي تستطيعون . وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية . ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب .
إن الإسلام حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في تلك الآيات . ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية , وهو يدرك شروطها على حقيقتها , قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب , أو يستبطى ء وقوعها في حالة من الحالات .
إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله , وحكمت هذا النهج في الحياة , وارتضته في كل أمورها . . إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن . وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة , وذلت , وطرد دينها من الهيمنة على البشرية ; واستبد بها الخوف ; وتخطفها الأعداء .
ألا وإن وعد الله قائم . ألا وإن شرط الله معروف . فمن شاء الوعد فليقم بالشرط . ومن أوفى بعهده من الله ?
الوحدة الخامسة:58 - 64
الموضوع:آداب الإستئذان وتكاتف المسلمين وملكية الله للكون
موضوع الوحدة
إن الإسلام منهاج حياة كامل ; فهو ينظم حياة الإنسان في كل أطوارها ومراحلها , وفي كل علاقاتها وارتباطاتها , وفي كل حركاتها وسكناتها . ومن ثم يتولى بيان الآداب اليومية الصغيرة , كما يتولى بيان التكاليف العامة الكبيرة ; وينسق بينها جميعا , ويتجه بها إلى الله في النهاية .
وهذه السورة نموذج من ذلك التنسيق . لقد تضمنت بعض الحدود إلى جانب الاستئذان على البيوت . وإلى جانبها جولة ضخمة في مجالي الوجود . ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى الله ورسوله وسوء أدب المنافقين . إلى جانب وعد الله الحق للمؤمنين بالاستخلاف والأمن والتمكين . وها هو ذا في هذا الدرس يعود إلى آداب الاستئذان في داخل البيوت ; إلى جانب الاستئذان من مجلس رسول الله -[ ص ] - وينظم علاقة الزيارة والطعام بين الأقارب والأصدقاء ; إلى جانب الأدب الواجب في خطاب الرسول ودعائه . . . فكلها آداب تأخذ بها الجماعة المسلمة وتنتظم بها علاقاتها . والقرآن يربيها في مجالات الحياة الكبيرة والصغيرة على السواء .
الدرس الأول:58 - 59 الإستئذان داخل البيوت
(يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ; ثلاث مرات:من قبل صلاة الفجر , وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة , ومن بعد صلاة العشاء . ثلاث عورات لكم . ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن . طوافون عليكم بعضكم على بعض . كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم). .
لقد سبقت في السورة أحكام الاستئذان على البيوت . وهنا يبين أحكام الاستئذان في داخل البيوت .
فالخدم من الرقيق , والأطفال المميزون الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون بلا استئذان . إلا في ثلاثة أوقات تنكشف فيها العورات عادة , فهم يستأذنون فيها . هذه الأوقات هي:الوقت قبل صلاة الفجر حيث يكون الناس في ثياب النوم عادة أو أنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج . ووقت الظهيرة عند القيلولة , حيث يخلعون ملابسهم في العادة ويرتدون ثياب النوم للراحة . وبعد صلاة العشاء حين يخلعون ملابسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل . .
وسماها(عورات)لانكشاف العورات فيها . وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم , وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم , كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم . وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية , مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية , ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة ! وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر . بينما يقرر النفسيون اليوم - بعد تقدم العلوم النفسية - أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها ; وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها .
والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب ; وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب , سليمة الصدور , مهذبة المشاعر , طاهرة القلوب , نظيفة التصورات .
ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات . ولا يجعل استئذان الخدم و الصغار في كل حين منعا للحرج . فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمةطوافون عليكم بعضكم على بعض). . وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات , وإزالة الحرج والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار .
فأما حين يدرك الصغار سن البلوغ , فإنهم يدخلون في حكم الأجانب , الذين يجب أن يستأذنوا في كل وقت , حسب النص العام , الذي مضت به آية الاستئذان .
ويعقب على الآية بقوله: (والله عليم حكيم)لأن المقام مقام علم الله بنفوس البشر , وما يصلحها من الآداب ; ومقام حكمته كذلك في علاج النفوس والقلوب .
الدرس الثاني:60 الرخصة للقواعد من النساء
ولقد سبق الأمر كذلك بإخفاء زينة النساء منعا لإثارة الفتن والشهوات . فعاد هنا يستثني من النساء القواعد اللواتي فرغت نفوسهن من الرغبة في معاشرة الرجال ; وفرغت أجسامهن من الفتنة المثيرة للشهوات:
(والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا ; فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن - غير متبرجات بزينة - وأن يستعففن خير لهن ; والله سميع عليم). .
فهؤلاء القواعد لا حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية , على ألا تنكشف عوراتهن ولا يكشفن عن زينة . وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة . وسمي هذا استعفافا . أي طلبا للعفة وإيثارا لها , لما بين التبرج والفتنة من صلة ; وبين التحجب والعفة من صلة . . وذلك حسب نظرية الإسلام في أن خير سبل العفة تقليل فرص الغواية , والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس .
(والله سميع عليم). . يسمع ويعلم , ويطلع على ما يقوله اللسان , وما يوسوس في الجنان . والأمر هنا أمر نية وحساسية في الضمير .
الدرس الثالث:61 تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء
ثم يمضي في تنظيم العلاقات والارتباطات بين الأقارب والأصدقاء:
ليس على الأعمى حرج , ولا على الأعرج حرج , ولا على المريض حرج , ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم , أو بيوت آبائكم , أو بيوت أمهاتكم , أو بيوت أخوانكم , أو بيوت أخواتكم , أو بيوت أعمامكم , أو بيوت عماتكم , أو بيوت أخوالكم , أو بيوت خالاتكم ; أو ما ملكتم مفاتحه , أو صديقكم . ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا . فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم , تحية من عند الله مباركة طيبة . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون . .
روى أنهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة - دون استئذان - ويستصحبون معهم العمي والعرج والمرضى ليطعموهم . . الفقراء منهم . . فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلاء أن يصحبوهم دون دعوة من أصحاب البيوت أو إذن . ذلك حين نزلت: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)فقد كانت حساسيتهم مرهفة . فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا فيما نهى الله عنه , ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد . فأنزل الله هذه الآية , ترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج , وعن القريب أن يأكل من بيت قريبه . وأن يصحب معه أمثال هؤلاء المحاويج . وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا يتضرر به . استنادا إلى القواعد العامة في أنه " لا ضرر ولا ضرار " وإلى أنه " لا يحل مال امرى ء مسلم إلا بطيب نفس " .
ولآن الآية آية تشريع , فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي , والصياغة التي لا تدع مجالا للشك والغموض . كما نلمح فيها ترتيب القرابات . فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم . بل تقول (من بيوتكم)فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج , فبيت الابن بيت لأبيه , وبيت الزوج بيت لزوجته , وتليها بيوت الآباء , فبيوت الأمهات . فبيوت الإخوة , فبيوت الأخوات . فبيوت الأعمام , فبيوت العمات , فبيوت الأخوال , فبيوت الخالات . . ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه . ويلحق بها بيوت الأصدقاء . ليلحق صلتهم بصلة القرابة . عند عدم التأذي والضرر . فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان .
فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الأكل منها , بين الحالة التي يجوز عليها الأكل: (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا)فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد . فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام ! فرفع الله هذا الحرج المتكلف , ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد , وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات .
فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة). . وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية . فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه . والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله . تحمل ذلك الروح , وتفوح بذلك العطر . وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . .
وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة:
(كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون). . وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير . .
الدرس الرابع:62 - 64 تنظيم العلاقات بين المسلمين والآداب في مجلس الرسول
وينتقل من تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء , إلى تنظيمها بين الأسرة الكبيرة . . أسرة المسلمين . . ورئيسها وقائدها محمد رسول الله [ ص ] وإلى آداب المسلمين في مجلس الرسول:
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله . وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ; إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله . فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم , واستغفر لهم الله . إن الله غفور رحيم . لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا . قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا . فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم . ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ; ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا , والله بكل شيء عليم . .
روى ابن اسحاق في سبب نزول هذه الآيات أنه لما كان تجمع قريش والأحزاب في غزوة الخندق . فلما سمع بهم رسول الله [ ص ] وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة . فعمل فيه رسول الله [ ص ] ترغيبا للمسلمين في الأجر , وعمل معه المسلمون فيه , فدأب ودأبوا , وأبطأ عن رسول الله [ ص ] وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين , وجعلوا يورون بالضعيف من العمل , ويتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول الله [ ص ] ولا إذنه ; وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله [ ص ] ويستأذنه في اللحوق بحاجته , فيأذن له . فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله , رغبة في الخير واحتسابا له . فأنزل الله تعالى في أولئك المؤمنين: إنما المؤمنون . . . الآية ثم قال تعالى:يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل , ويذهبون بغير إذن من النبي [ ص ]: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم . . . الآية . .
وأيا ما كان سبب نزول هذه الآيات فهي تتضمن الآداب النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها . هذه الآداب التي لا يستقيم أمر الجماعة إلا حين تنبع من مشاعرها وعواطفها وأعماق ضميرها . ثم تستقر في حياتها فتصبح تقليدا متبعا وقانونا نافذا . وإلا فهي الفوضى التي لا حدود لها:
(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله). . لا الذين يقولون بأفواههم ثم لا يحققون مدلول قولهم ; ولا يطيعون الله ورسوله .
(وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه). . والأمر الجامع الأمر الهام الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه , لرأى أو حرب أو عمل من الأعمال العامة . فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم . كي لا يصبح الأمر فوضى بلا وقار ولا نظام .
وهؤلاء الذين يؤمنون هذا الإيمان , ويلتزمون هذا الأدب , لا يستأذنون إلا وهم مضطرون ; فلهم من إيمانهم ومن أدبهم عاصم ألا يتخلوا عن الأمر الجامع الذي يشغل بال الجماعة , ويستدعي تجمعها له . . ومع هذا فالقرآن يدع الرأي في الإذن أو عدمه للرسول [ ص ] رئيس الجماعة . بعد أن يبيح له حرية الإذن: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم). . [ وكان قد عاتبه على الإذن للمنافقين من قبل فقالعفا الله عنك ! لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)] . . يدع له الرأى فإن شاء أذن , وإن شاء لم يأذن , فيرفع الحرج عن عدم الإذن , وقد تكون هناك ضرورة ملحة . ويستبقي حرية التقدير لقائد الجماعة ليوازن بين المصلحة في البقاء والمصلحة في الانصراف . ويترك له الكلمة الأخيرة في هذه المسألة التنظيمية يدبرها بما يراه .
ومع هذا يشير إلى أن مغالبة الضرورة , وعدم الانصراف هو الأولى ; وأن الاستئذان والذهاب فيهما تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي [ ص ] للمعتذرين: (واستغفر لهم الله . إن الله غفور رحيم). . وبذلك يقيد ضمير المؤمن . فلا يستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به إلى الاستئذان .
ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول [ ص ] عند الاستئذان , وفي كل الأحوال . فلا يدعى باسمه:يا محمد . أو كنيته:يا أبا القاسم . كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا . إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه:يا نبي الله . يا رسول الله:
(لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا). .
فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله [ ص ] حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه . وهي لفتة ضرورية . فلا بد للمربي من وقار , ولا بد للقائد من هيبة . وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا ; وأن ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض . . يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم , ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير .
ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن , يلوذ بعضهم ببعض , ويتدارى بعضهم ببعض . . فعين الله عليهم , وإن كانت عين الرسول لا تراهم: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا). . وهو تعبير يصور حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس ; ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة , وحقارة الحركة والشعور المصاحب لها في النفوس .
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). .
وإنه لتحذير مرهوب , وتهديد رعيب . . فليحذر الذين يخالفون عن أمره , ويتبعون نهجا غير نهجه , ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة . ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس , وتختل فيها الموازين , وينتكث فيها النظام , فيختلط الحق بالباطل , والطيب بالخبيث , وتفسد أمور الجماعة وحياتها ; فلا يأمن على نفسه أحد , ولا يقف عند حده أحد , ولا يتميز فيها خير من شر . . وهي فترة شقاء للجميع:
(أو يصيبهم عذاب أليم)في الدنيا أو في الآخرة . جزاء المخالفة عن أمر الله , ونهجه الذي ارتضاه للحياة . ويختم هذا التحذير , ويختم معه السورة كلها بإشعار القلوب المؤمنة والمنحرفة بأن الله مطلع عليها , رقيب على عملها , عالم بما تنطوي عليه وتخفيه .
(ألا إن لله ما في السماوات والأرض . قد يعلم ما أنتم عليه ; ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا . والله بكل شيء عليم). .
وهكذا تختم السورة بتعليق القلوب والأبصار بالله ; وتذكيرها بخشيته وتقواه . فهذا هو الضمان الأخير . وهذا هو الحارس لتلك الأوامر والنواهي , وهذه الأخلاق والآداب , التي فرضها الله في هذه السورة وجعلها كلها سواء . .





تفسير سورة النور لسيد قطب



التوقيع

خلف كل زاوية من زوايا الظلام.. انتظر وميض الأمل
رد مع اقتباس


إضافة رد



جديد مواضيع القسم الاسلامي

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تفسير سورة النور لابن عثيمين وميض الأمل القسم الاسلامي 1 12 - 04 - 2018 06:55 AM
تفسير سورة النور للطبري وميض الأمل القسم الاسلامي 1 18 - 12 - 2017 07:13 AM
تفسير سورة النور للشنقيطي وميض الأمل القسم الاسلامي 0 21 - 12 - 2011 09:31 PM


12:29 AM