الحلقة الثالثة:
مقدمة في أصول التفسير
الأصل الثالث: كيفية نزول القرآن الكريم وجمعه
لقد شاء ربي جلّ جلاله ولا رادّ لمشيئته أن ينزّل القرآن الكريم منجّماً أي مفرّقاً على قلب حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم على مدار ثلاثةٍ وعشرين عاماً وكان المصطفى في الأربعين من عمره حين نزلت عليه أولى آيات القرآن الكريم وحتى قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بتسع ليال.
ما هي أول الآيات التي نزلت على المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: صدر سورة العلق.
قال تعالى:
سورة العلق
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
ما هو أول أمر لهذه الأمة؟
الجواب: اقرأ.
وفي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ، وهو التعبد ، الليالي ذوات العدد ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها ، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه ، فقال : اقرأ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق - حتى بلغ - علم الإنسان ما لم يعلم } ) . فرجع بها ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال
زملوني زملوني ) . فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال
يا خديجة ، ما لي ) . وأخبرها الخبر ، وقال
قد خشيت على نفسي ) . فقالت له : كلا ، أبشر ، فوالله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد ابن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، أكون حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أو مخرجي هم ) . فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغنا ، حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل ، فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقا . فيسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك .
الراوي: عائشة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 6982
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
ما أنا بقارئ: المعنى الصحيح من أقوال المحققين من علمائنا، ما أقرأ؟ أي ما الذي أقرأه؟ وبعض أهل العلم قال ما أنا بقارئ أي لا أحسن القراءة.
علق: مرحلة من مراحل التكوين والخلق لم يصل إليها الإنسان إلا بعد أربعة عشر قرناً.
في قوله تعالى:
سورة المؤمنون
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
هذا من حيث الأصل
وقوله تعالى:
سورة المؤمنون
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
هذا من حيث النوع
لِمَ ذكر الله تعالى العلقة و لم يذكر النطفة كونها أولى المراحل؟ فلم يقل خلق الإنسان من نطفة أو من طين!
الجواب: لأن العلقة أولى مراحل التكوين الحقيقي للإنسان لأن النطفة تكون ماءً مهيناً أو منيّاً ولكن حين يخصب ماء الرجل أو المني نطفة المرأة أو بويضتها وتتحول إلى نطفة أمشاج وتتعلق بجدار الرحم فهذه أولى مراحل التكوين للجنين في بطن أمه حيث تكون دماءً حقيقية.
فالعلقة: قطعة من الدم المتجمد الذي يتعلق بجدار رحم المرأة.
فهذه الآيات العجيبة يذكر فيها القراءة ويذكر فيها العلقة ويذكر فيها القلم كرمز وإشارة إلى العلم وكأحدث ما سيصل إليه العلم من أدوات
ما آخر ما نزل من القرآن الكريم؟
هناك خلاف بين علمائنا وعلى ثلاثة أقوال:
القول الأول:
قال أصحاب هذا القول أن آخر من نزل من القرآن الكريم قوله تعالى:
سورة المائدة
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
نزلت الآية (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) على قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم عشية (آخر النهار) يوم عرفة في يوم الجمعة في حجّة الوداع.
جاء في البخاري من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه:
قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين ، لو أنّ علينا نزلت هذه الآية : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } . لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، فقال عمر : إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية ، نزلت يوم عرفة ، في يوم جمعة .
الراوي: عمر بن الخطاب المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 7268
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
لمّا نزلت الآية خشي كثير من الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة من أوّلوا الآية على أنها أجل المصطفى أو أنّ أجل الرسول قد اقترب، فما أتمّ الله شيئاً إلا وأذن بعد هذا التمام بالنقصان، فما من شيءٍ يبلغ التمام إلا وقد آذن بالنقصان.
القول الثاني:
قال أصحاب هذا القول أنّ آخر ما نزل من القرآن سورة النصر.
هذه السورة نزلت بعد آية المائدة (اليوم أكملت لكم دينكم...) لأنها لما نزلت ثبت في صحيح البخاري وغيره أنّ عمر رضي الله عنه كان يأذن لابن عباس رضي الله عنه أن يدخل ليجلس مع مجلس شورى عمر من كبار الصحابة وكان بعض الصحابة قد عتب على عمر كيف يدخل ابن عباس وعندهم من أبنائهم من يكبر ابن عباس في السن، فأراد عمر أن يبيّن لهم قدر ابن عباس وأنّ القرآن هو الذي يرفع أصحابه، فقال عمر: ما تقولون في قوله تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح، فقالوا يأمر ربنا جل وعلا نبيه إذا فتح الله عليه مكة أن يستغفر الله ويتوب إليه، فالتفت عمر إلى ابن عباس وقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟ فقال: والله أقول بغير هذا، قال عمر: وما تقول؟ قال: أقول إنها أجل رسول الله أعلمه الله إياه، فقال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما قد علمت يا ابن عباس.
والفهم من الله لقوله تعالى:
سورة الأنبياء
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
(79)
إضافة:
ابن عباس رضي الله عنه هو الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالفهم والفقه وعلم التأويل، كان من أفهم الصحابة للقرآن كما كان عليٌّ رضي الله عنه من أفهم الصحابة لكلام الله ولكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اشتهر عن عمر كثيرا ما كان يقول نازلة وليس لها أبا الحسن! فلطالما جلّى عليٌّ كثيرا من المعضلات والمشكلات والأزمات الفقهية والعلمية والفتاوى بعلمه وفهمه الثاقب.
تفسير سورة النساء للشيخ محمد حسان