لم يكن لدي المزيد من المحاضرات اليوم فقد اعتذر مدرس محاضرة 12-1 منذ يوم قبل أمس بلباقة مما فوت علينا حماسة انتظاره في قاعة الخوارزمي لربع ساعة حسب العرف الدارج، لنبدأ بعدها العد التنازلي في الثواني العشر الأخيرة فيما يشبه ذلك الذي نراه حين تطلق ناسا صاروخاً جديداّ!
ورغم أني ظننت أني سأحظى ببقية هذا النهار لنفسي وهو أمر لم يحصل منذ انتهاء الامتحان الثاني إلا أن سؤالاً عابراً ألقاه مدرس مادة علم الوراثة ما لبث أن حَسُنَ في عينه فقرر - لما لم يحصل منا على إجابة ترضيه - أن يجعل لعلامة إجابته نسبة في الامتحان الـثالث، مما اضطرني إلى عدم التغاضي عنه كما أفعل أن داهمني الوقت أو ثقلت علي الأعمال.
والسؤال على طرافته بدا لي لأول وهلة ممتنعاً منغلقاً ، "يحتاج إلى زمرة عرافين كي تفك طلاسمه" ولم تزدني الوهلة الثانية و ما تبعها إلا اقتناعا بكم هو مهمةً صعبة هذا السؤال! فإيجاد وجه الشبه بين (الأمريكيين الأفارقة )و(فراشات هاواي) بدا شيئاً فكاهياً لا بد أن يعلن عن نفسه في أي لحظة كطرفة! ولما لم تشي ملامح الأستاذ بهذا عزمت الأمر وإلى المكتبة شددت الرحال وبين قاعاتها المختلفة احترت للحظة قبل أن تنتصر بفارق بيّن قاعة النت على قاعة الدوريات العلمية والكتب ورسائل الدكتوراه والمراجع وسائر القاعات ! فإليها عجّلت الخطو وللحظة تسمرت أصابعي في الهواء فوق لوحة المفاتيح قبل أن أقرر أن أكتب السؤال كما هو علّ معجزة ما تحصل فتنهمر بين يدي الإجابة مرّة واحدة دون جهد، إلا أنني لم أحصل سوى على إجابات مختلفة "الأمريكيين الأفارقة ، تاريخ السود، مشاهير السود، العبودية في أمريكا، الفراشات حقائق وصور، فراشات هاواي ويكبيديا،..."إذن لم يفلح الأمر فصار لزاماً عليّ أن ابدأ بالبحث في أحد طرفي السؤال، وفي هذه اللحظة بالذات بدا لي أن البدء من الأمريكيين الأفارقة إنما هو ضربٌ من الجنون لكوني لا أعلم ما الذي أبحث عنه وسأضيع زمناً بين الحرب الأهلية ولنكولن ومارتن لوثر كنغ والتمييز العنصري والتمييز المضاد.. لذلك عزمت أمري أن أبدأ بالفراشات فحياة لا تزيد عن بضع أيام قد لا تخفي ذات الكم من الأسرار والمعلومات ، وهكذا كان....
مررت أصابعي تباعاً على الحروف، وكصديق وفيّ عاجلني جوجل بالخيارات، وبشعور خفي بالقوة وتحقيق الذات تخيرت منها ما يحمل امتداداً علمياً يمكن الوثوق به، ورغم تقديري الكبير لهذه المساعدة القيمة من هذا الجهاز الرائع إلا أن فيّ حاجة لم تبارحني لأن ألمس الأوراق بيدي لأفهمها كما يجب، ولربما تسهم جلسة هادئة في ظل شجرة وارفة من أشجار الجامعة بتعزيز الفهم... على هذا نويت، فطبعت الأوراق ومضيت إلى غايتي.
خرجت من مدخل المكتبة واتجهت من فوري نحو اليمين جهة برج الساعة، ثم تجاوزتها باتجاه مدرج "الرفاعي" قبل أن أنحرف إلى اليمين ثانية فأعود باتجاه كلية العلوم ولكن من الشارع العلوي شبة الخالي حيث المساحة أقل اكتظاظاً وأكثر جمالاً.. وصلت إلى غايتي وفي بقعة أحبها جلست، وبعد أن أدرت النظر فيما حولي رددته إلى الأوراق علّ الله يفتح عليّ الذي استعصى وانغلق..!
كنت أعلم أن فعلي هذا ليس إلا مقدمة لإيجاد الإجابة، لكنني كنت أرجو أن أقرأ معلومة ما تدق جرساً في رأسي المكتظة ...أعني شيئاً في سلوك الفراشات أو صفاتها الخلقية يشابه شيئاً مما أعلم عن الأفارقة أو تاريخ السود ...وبدأت أقرأ..
كان المكان مناسباً جداً للموضوع فبين جمال الفراشات الآخاذ-بالرغم من دورة حياتها المقتضبة- كان حفيف الأشجار وتغريد الطيور ومناغاة عصفورين صغيرين يتقافزان بين الأغصان بغبطة أمراً ساحراً لم تزده نسمات تتخلل من بين الشجر إلا رونقاً..وفي حرم هذا الجمال عرفت أنواعها وتسمياتها العلمية ووصف لبعض أجناسها وما تشابه منها مع غيرها من فراشات في أماكن يفصلها البحر عنها، وحين ابتدأ الحديث عن هجرتها شعرتُ بالاقتراب مما أريد.. ثم مررت مروراً عابراً بملاحظة تقول أن الفراشات في الساحل أكبر حجماً منها في أي مكان آخر، مع تعليل لعالم يرد الأمر إلى تطور وراثي جعل الفراشات -التي عانت طويلاً من رياح قوية ترمي بها في الماء والبلل للفراشة مقتلها- جعلها تطور جيناتها الوراثية، فيكبر حجمها ويزداد لتقاوم فعل الريح وتتغلب على قوتها فتنجو بروحها.. شعرت في تلك اللحظة كم هو متقن هذا الكون ، وكم هي قوية إرادة البقاء، وكم هو مغرور هذا الإنسان الذي يظن أنه وحده من يحمل أسرار الكون بين جنبيه...شيء ما قال لي أنني وصلت إلى غايتي ولم يبق لي سوى أن أجد تطوراً وراثياً ما لدى السود تجعلهم أقدر على البقاء...وأول ما خطر لي كان اللون وما له من أثر على التكيف والتحمل، لكن الأمر كان ليكون أكثر منطقية لو كان الأستاذ سأل عن الأفارقة بالمطلق وليس عن الذين اقتيدوا على متن سفن العبودية إلى أمريكا ، فالمنطق يدعوني لأجنب البنية والتركيب الجسدي واللون إذ لا بد أن للأمر علاقة بالهجرة والظروف الصعبة للرحلة... وهنا بالذات تذكرت تعليلاُ لـ" أوبرا وينفري" المذيعة الشهيرة عزت فيه سبب انتشار مرض ارتفاع ضغط الدم بين السود إلى رحلتهم الطويلة، قالت يومها أن الظروف الصعبة التي مرّ بها أجدادها جعل الوحيدين الذين استطاعوا الوصول إلى العالم الجديد على قيد الحياة هم أولئك الذين خزّن جسدهم كميات من الملح جعلتهم يعانون فيما بعد من ارتفاع مزمن في ضغط الدم ورّثوه لابنائهم من بعد ، وأذكر أنني تساءلت يومها كيف أن ظرفاً ما أوجب تطوراً جينياً مورّثاُ لم تفلح سنين الحرية التي تلت باقناع ذات الجسد بأنه لم يعد يحتاج هذا المكنيزم المفيد للبقاء في زمن الشدة المضر في أزمنة أخرى...؟!
كم هو عظيم هذا الكون ليشي بعظمة الله خالقه!وكم هو زاخر بالأسرار ..في اللحظة التي قررت أن بقائي في تلك البقعة قد طال وأنه آن لي على رغم استمتاعي بأن أعود إلى البيت كي نجتمع معاً على طاولة الغداء وكي يتسنى لي التأكد مما وصلت إليه من افتراض لأصوغه فيما بعد وأطبعه..وقبل أن انتهي من جمع أشيائي المتناثرة على المقعد لمحت أربعاً من عمال البستنة في الجامعة قادمين نحو إحدى الأشجار التي مررت عنها في طريق قدومي حاملين بين أيديهم أدواتٍ ميزت منها منشارين أحدهما يدوي والآخر كهربائي، وتناهى لسمعي نقاشهم الطريف حول من سيتسنى له استخدام الآلي اليوم تساءلت حينها ما ستؤول اليه البقعة التي سينحسر منها الشجر هذه المرة لعله فرع لـ"بلانيت هوليود" ربما ؟ تبسمت بينما أنا اقترب منهم حين انطلقت صيحات الانتصار من حامل المنشار الآلي لما انكسر نصل المنشار اليدوي فور أن قرّبه البستاني من الشجرة "أفسح مجالاً للحضارة ..!" أمر زميله باستهزاء واقترب بثقة أكسبته إياها التكنولوجيا نحو الشجرة لكن ما أن لامسها حتى ارتد بقوة مع صرخة ألم مفاجئة، وسقط على بعد متر من الشجرة، قربي تماماً فجفلت