اعجبني
مفارقة التداول وسلوكيات البيع والشراء في أسواق المال
ضبط النفس هو المفتاح لحياة المستثمر
جون أوثرز [SIZE="5"]''أنا أعلم أنني تماديت، وهذه المرة تماديت بعيداً بعيداً، ولا أريد أن أفكر فيما قمتُ به، ولا أعلم كيف سأتوقف''
من أغنية ''لا أستطيع أن أضبط نفسي''، للمطرب بيتر جابرييل، 1980
إن ضبط النفس هو المفتاح لكثير من الأمور في الحياة، وفي الاستثمار يعتبر هو المفتاح لجميع الأمور تقريباً. خلال العقدين السابقين، ومن تطبيق مكتَشفات علم النفس التجريبي على عالم المال، تَبَيَّن لنا المدى الذي يمكن أن يصل إليه حتى أذكى الناس في الوقوع في الخطأ، لأنهم لا يستطيعون السيطرة على عواطفهم.
إن علم المال السلوكي ممتع إلى حد كبير، لكن القضية كانت دائماً: هل يستطيع أي إنسان أن يجني المال من هذا العلم؟ صحيح أنه لا مفر من ارتكاب البشر للأخطاء، إلا أنه لا يبدو عليها أنها تُترجَم إلى مكاسب أو خسائر حتمية بالنسبة لأسهم أو سندات بعينها. إن الأبحاث السلوكية، بدلاً من أن تعطي كل شخص طريقاً للأمام، تبدو في الغالب وكأنها تنصح باليأس (وعدم القدرة على الوصول إلى نتائج ملموسة).
آخر الداخلين إلى علم الأبحاث السلوكية يحاول تصحيح ذلك. في الأسبوع الماضي، نشرت شركة باركليز ويلث لإدارة الثروات استبياناً لألفين من كبار الأثرياء في العالم، يمتلك الواحد منهم على الأقل 1.5 مليون جنيه استرليني في موجودات قابلة للاستثمار. وقد سئل هؤلاء الأشخاص عن مدى قدرتهم على ضبط النفس للتغلب على عوامل عدم الانضباط الشخصي. لست على يقين من مقدار الجانب العلمي في أي استبيان من هذا القبيل، على اعتبار أنه يعتمد على التقييم الذاتي، لكن النتائج مثيرة للاهتمام.
يبدو أن الأثرياء عالقون في ''مفارقة التداول''، شأنهم في ذلك شأن أي شخص آخر. باختصار، من الصعب توقيت السوق وبالتالي كلما زادت تداولاتك قَلَّ احتمال أن تجني المال. الأمر اليقيني الوحيد هو أن رسوم التعاملات ستتراكم عليك (بالتالي فإن صناعة الخدمات المالية لديها مصلحة في تشجيع هذا الأمر). إن التداول المكثف هو في معظم الأحيان مَضيَعة للمال – إلا إذا كانت لديك سبيل لبعض المعلومات الممتازة، والكثير من الأموال عن طريق الرفع المالي، وكنتَ على استعداد لأن تقوم بذلك بدوام كامل.
وجدت شركة باركليز ويلث أن ثُلُث المشاركين في الاستبيان يعتقدون أنه ''حتى ينجح الشخص في الأسواق المالية لا بد له من الإكثار من عمليات الشراء والبيع''، في حين أن 40 في المائة منهم يصفون أنفسهم بأنهم يحاولون توقيت السوق بدلاً من اتباع استراتيجية تقوم على ''الشراء والاقتناء''. رغم ذلك، قال 16 في المائة منهم إنهم كانوا يقومون بتداولات فوق الحد. وقد اختير هؤلاء على غير تناسب في العدد من بين الفئة التي تظن أن من الضروري الإكثار من عمليات الشراء والبيع. يبدو أن التداول يؤدي إلى الإدمان على نحو مثير للقلق: فالناس يقومون به بمعدلات تفوق الحد وليس بمقدورهم السيطرة على أنفسهم.
النساء أقل ميلاً للوقوع في هذه المشكلة من الرجال، في حين أن السن يأتي كذلك بقدر أكبر من ضبط النفس.
بالتالي كيف يبدأ المفرطون في التداول بالسيطرة على أنفسهم؟ تستشهد شركة باركليز (على نحو يوحي بأنها تحبذ ذلك) بمثال يولسيز (بطل ملحمة الأوديسة من تأليف هوميروس)، الذي ربط نفسه بحبل إلى صارية السفينة حتى يضمن أنه لن يقع ضحية لأغنية جنيات البحر. (حسبما جاء في الأوديسة، من يسمع أغنية جنيات البحر يقع تحت تأثيرهن ويقاد إلى حتفه دون أن يشعر، لذلك اضطر يولسيز إلى سد آذان بحارته بالشمع، وطلب منهم أن يشدوا وثاقه إلى صارية السفينة حتى يسمع الغناء ولا يقع تحت تأثيرهن).
والاستراتيجيات الواردة في التقرير هي كذلك متطرفة بالقدر نفسه. فهي تشتمل على أن يعمل الشخص بصورة متعمدة على تقليص خياراته (على سبيل المثال من خلال شراء استثمارات يصعب كثيراً تحويلها إلى سيولة). وعلى ما يبدو فإن ثُلُتي كبار الأثرياء يقومون بذلك في حياتهم المالية.
وهناك نحو 76 في المائة يلجؤون إلى استراتيجيات الاجتناب، مثل اجتناب الأخبار التي تتحدث عن تغيرات الأسعار. وكما هي الحال مع استراتيجيات تقليص الخيارات، لا يرجح للمستثمرين أن يجربوا هذه الطريقة في عالم المال، مثلما أنهم لا يكثرون من اللجوء إليها في الحياة الفعلية.
لكن 89 في المائة منهم يحاولون تطبيق قواعد حازمة. ومن الأمثلة على هذه القواعد في أسئلة باركليز إلى المشاركين: وضع مواعيد نهائية للتغلب على مشكلة التأجيل (وهو أسلوب يتبعه 90 في المائة) واستخدام فترات لالتقاط الأنفاس والهدوء، مثل الانتظار بصورة قسرية لمدة 24 ساعة بعد مشاهدة أحد المساكن قبل التقدم بعرض لشرائه (يستخدم 92 في المائة منهم طريقة أخْذ فترة زمنية لالتقاط الأنفاس.)
ووجد الاستبيان أن كثيرا ًمن الأثرياء يتعاملون مع افتقارهم إلى الانضباط من خلال تخويل الآخرين صلاحية اتخاذ القرارات، وهو أسلوب لا يتعامل مع المشكلة بقدر ما يتجنبها تماماً. ولا ينجح إلا إذا كان الشخص الذي تختاره يتمتع بقدرة كبيرة على ضبط النفس.
كل هذه تعتبر مفاهيم مثيرة للاهتمام والتفكر. لكن يبدو لي أن أكثر حل طبيعي هو أن نخلِّص أنفسنا من الغواية تماماً. يوجد ميل قوي لدى المتداولين الهواة لأن يخسروا المال. وهذا أمر ينبغي ألا يحاوله أي شخص – حتى أكثر الأشخاص ثراءً من بيننا – من بيته، ما لم نتخذ من ذلك عملاً بدوام كامل.
من المؤكد أن الطريقة التي هي خير من ذلك هي في الاستثمار السلبي، بمعنى وضع المال في المنتجات التي تقتفي أداء المؤشرات على أساس منتظَم. بهذه الطريقة لا تتعرض إرادتنا للامتحان، ولن نكون حتى عرضة للوقوع في أسر مدير غير منضبط للأموال. ربما نكون أكثر طموحاً ونحاول الاستثمار في صناديق كمية عالية تسعى للاستفادة من عوامل انعدام الكفاءة في السوق. تعمل هذه الصناديق من خلال التقاط الأموال التي يخسرها الآخرون بسبب انعدام الكفاءة. لكن هذه الطريقة لن يكون لها معنى إلا إذا كانت الرسوم متدنية.
وإذا ابتعدنا عن الأثرياء، سيكون من الأفضل لو أن بمقدور صناعة الاستثمار تصميم منتجات لا تؤدي إلى إغراء المستثمرين بالعبث أو الإفراط في التداول. إذا كان الخيار الأصلي المعروض من شركات صناديق التقاعد أو التأمين هو خيار طيب، نستطيع جميعاً في هذه الحالة أن نواصل حياتنا ونستمتع بالأمور الأكثر إمتاعاً في الحياة.
لكن إلى أن يتحقق ذلك، تحتاج صناعة الاستثمار نفسها إلى أن تُظهِر قدراً يسيراً من ضبط النفس أكثر من ذي قبل.[/SIZE]