• 1:24 صباحاً




ملكشاه بن ألب أرسلان

إضافة رد
أدوات الموضوع
عضو فـعّـال
تاريخ التسجيل: Jul 2014
المشاركات: 1,674
معدل تقييم المستوى: 11
slaf elaf is on a distinguished road
19 - 05 - 2021, 03:40 PM
  #1
slaf elaf غير متواجد حالياً  
افتراضي ملكشاه بن ألب أرسلان


السلطان الكبير جلال الدولة أبو الفتح ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان محمد بن جغري بك السلجوقي التركي، ولد (في التاسع من جمادى الأولى سنة 447 هـ / 1055م)، و تملَّك بعد أبيه، ودبّر دولته نظام الملك الوزير بوصية من ألب أرسلان إليه في سنة 465 هـ [1].

تربية ملكشاه على إدارة السلطنة وتوطيد الملك له
تربيته على إدارة السلطنة بعد معركة سمرقند التي قام بها السلطان ألب أرسلان رحمه الله سنة 465هـ وقبل وفاته على أثر جرحه بيد يوسف الخوارزمي أمر القواد بمبايعة ابنه، ملكشاه، للمرة الثالثة، وعيَّن وزيره نظام الملك وصيًّا عليه وطلب احترامهما وطاعة أوامرهما [2]، وكان قد أعدّه إعداداً ملكياً ودربه تدريباً سلطانياً، مثلماً أعده أبوه -جغرى بك- من قبل وقد ساعده على ذلك وزيره نظام الملك، حيث رغّبه في دراسة العلوم ومرنه على المثابرة والجلد في الحروب، وبهذا تعاون الوالد والوزير معاً على تهيئته لعرش آل سلجوق، ولذلك لم يكتف بتدريبه النظري، كما يربى معظم أبناء الملوك وإنما أنزله الميادين وأشركه في القتال حتى مرن على الحرب وعرف خططها وخدعها وكذلك أراد له أن يتعلم أصول الحكم وتدبير شئون الرعايا بالممارسة وليس عن ظهر قلب فمنحه حكومة "كيلان" وأصدر بذلك منشوراً [3].

تولي ملكشاه السلطنة
وبناء على توصية والده السلطان ألب أرسلان فقد اجتمع قواد الجيش، وأعيان الدولة في حلف خطير لإجراء مراسم الجلوس، وبايعوا السلطان ملكشاه سنة 465هـ وعمره -حينذاك- ثمانية عشر عاماً، وقال في خطاب العرش- حينما طلب إليه نظام الملك أن يتكلم [4]: "الأكبر منكم أبي، والأوسط أخي، والأصغر ابني، وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه". فأمسكوا فأعاد القول، فأجابوه بالسمع والطاعة [5]، وهي كلمة تدل على نزعته العادلة وامتثاله الآداب الإسلامية، وقد تكون من وضع الوصي عليه نظام الملك. كما تولى هو وأبو سعد المتولي أخذ البيعة له من الأمراء والوجهاء وأطلق الأموال عليهم، لذلك أجمعت المصادر التاريخية على أن نظام الملك لعب دوراً كبيراً في تنصيب السلطان الجديد، كما كان له الفضل الأكبر في إرساء دعائم الدولة وانتصاراتها الحربية والفكرية والعقائدية على الباطنية والفلاسفة وذلك باهتمامه الكبير بعلماء أهل السنة ونشر المدارس نظام الملكية في أرجاء الدولة السلجوقية، مما كان له فضل كبير في حفظ منهج أهل السنة ودحر المد الباطني.

وقد أثبت السلطان الجديد مقدرة فائقة في الحرب، ورغبة نادرة في الإصلاح والتعمير حتى عده أحد المؤرخين المؤسس الحقيقي للإمبراطورية السلجوقية المترامية الأطراف وذلك بنشاطه وحنكة وزيره، ويعتبر نظام الملك هو الموجه لسياسة الدولة، فسواء أكان المؤسس لدولة السلاجقة، طغرل بك، أو ألب أرسلان، أو ملكشاه، فإنهم قد تعاونوا على إنشائها وتوطيد دعائمها ثم اتساع رقعتها حتى كان لثالثهم من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد اليمن، وقد خطب له من حدود الصين إلى آخر الشام.

خروج عمّه والقضاء عليه
لم يتربع ملكشاه على العرش السلجوقي حتى صدقت ظنون أبيه في وصيته، وخرج عليه أعضاء أسرته مطالبين بالعرش، وكان أول هؤلاء وأشدهم بأساً وأقواهم حجة "قاروت" ملك كرمان أخو السلطان ألب أرسلان، ولم يكن يخفى عليه أن النصر لا يكون له إلا إذا كسب الجيش وربح مؤازرته، فاستمال القواد والجنود بزيادة رواتبهم وتحسين حالتهم إذا أتى إلى الحكم, فقامت بذلك مظاهرتهم مطالبين بمجيء "قاروت" إلى العرش وأحقيته بالسلطان، وكتب إلى ابن أخيه في نفس الوقت يقول: إني أحقّ منك بالعرش لأني الأخ الأكبر للسلطان الراحل وأنت أصغر أبنائه. وسار بجيشه إلى الري [6]، وقد أدرك نظام الملك خطورة هذه الفتنة وشدّتها، وأنها تهدد عرش السلطان ومنصب وزيره وأنها ستقضي عليهما وعلى أهدافه إذا كتب لها النصر, فقرر الإسراع بجيشهما نحو الري حتى بلغها قبل وصوله، وأجاب على رسالة عم السلطان: إن الابن أحقّ بالعرش من الأخ [7]، فالتقوا بقرب همذان، فانكسر جمعه، وأتي بعمه أسيراً، فوبّخه، فقال: أمراؤك كاتبوني، وأحضر خريطة فيها كتبهم، فناولها لنظام الملك ليقرأها، فرماها في منقل نار، ففرح الأمراء وبذلوا الطاعة [8]، وأدخل قاروت السجن ولكن ما أدخله في روع الجنود من زيادة رواتبهم لم يزل يدفعهم إلى التظاهر والعصيان، والتهديد بمبايعة الأمير السجين إذا لم تلب طلباتهم، وأحس نظام الملك بحرج الموقف ودقته وأنه لا بد أن يتخذ رأيا حاسماً لقطع النزاع، فوافق رؤساء الجيش على مشروعية مطالبهم ووعدهم بأنه سيحدث السلطان ويقنعه بتنفيذها، وهدأت الأحوال، وذهب لمقابلة السلطان وأخبره بما انتهى إليه الحال وأشار عليه -كما يذكر معظم المؤرخين - بقتل عمه في الحال، فأصدر السلطان أمره وقتل وما إن عاد رؤساء الجيش ليستفسروا عما تمّ بخصوص مطالبهم حتى فاجأهم نظام الملك بأنه ما استطاع مفاتحة السلطان بأمرهم حيث وجده حزيناً على فقد عمه الذي امتص السّم من خاتم في أصبعه ومات في السجن، فعادوا واجمين خائفين، ولم يستطع أحدهم القيام بحركة مناوأة، واستتبّ الأمن في البلاد [9]، ولم يتخلص السلطان من عمه حتى زحف نحو سمرقند وعبر نهر جيحون سنة 467هـ ليأخذ بثأر أبيه من البلاد التي اغتيل فيها، ولكنه لم يصل إليها حتى هرب حاكمها - خاقان البتكين - فتوسط له نظام الملك وأجيب لذلك [10].

ثم استمرت شفاعات "نظام الملك" تترى على السلطان في طلب الصفح عن الخارجين بعد اعتذارهم، وإعادتهم إلى مقر وظائفهم واتخذ وسيلة جديدة هذه المرة في سياسته الحربية كان فيها رسول سلام ابتداءً من سنة 467هـ إلى 473هـ، حيث خرج على السلطان أخوه "تكش" بعد أن التحق بجيشه الجنود الذين فصلهم من سلك الخدمة العسكرية خلافاً لرأي وزيره "نظام الملك"، وكان بـ "بوشنج" واستولى على مرو الروز الشاهجلمان، فسار السلطان إلى خراسان ودخل نيسابور قبل أن يصلها أخوه ثم التقيا "بترمذ" واصطلحا أيضاً سنة 473هـ.

اهتمام ملكشاه بالرعية وشيء من عدله ومواقفه

تفقد ملكشاه للرعية

زار ملك شاه رحمه الله الأقاليم وتفقد أحوال الرعية واحتياجاتهم بنفسه وبنى المخافر في السبل، فانتشر الأمن من حدود الصين إلى البحر المتوسط، ومن جورجيا إلى اليمن جنوباً، وقام بجولة من أصبهان إلى الأنبار ومنها إلى الموصل، ثم سار إلى حلب حيث قضى على بعض أمرائها، وكان وزيره نظام الملك يرافقه في جميع سفراته وجولاته وهو الذي يدبر الأمور له [11]، وكانت دولته، صارمة، والطرقات في أيامه آمنة، ومع عظمته يقف للمسكين والمرأة والضعيف فيقضي حوائجهم [12]، وقد عمّر العمارات الهائلة، وبنى القناطر، وأسقط المكوس والضرائب وحفر الأنهار الكبار، وبنى مدرسة أبي حنيفة والسوق وبنى الجامع الذي يقال له: جامع السلطان ببغداد [13].

تشييع ملكشاه لركب الحجاج العراقي
شيَّعَ ملك شاه رحمه الله مرة ركب العراق إلى العُذيَب [14]، فصاد شيئاً كثيراً، فبنى هناك منارة القرون من حوافر الوحوش وقرونها، ووقف يتأمل الحجاج، فرقّ ونزل وسجد، وعفَّر وجهه وبكى، وقال بالعجمية: بلغوا سلامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولوا: العبد العاصي الآبق أبو الفتح يخدم ويقول: يا نبي الله، لو كنت ممّن يصلح لتلك الحضرة المقدسة، كنت في الصحبة، فضجّ الناس وبكوا، ودعوا له [15].

مناصرة ملكشاه للمظلومين
كانت لملكشاه أفعال حسنة وسيرة صالحة، من ذلك أن فلاحاً أنهى إليه أن غلماناً له أخذوا له حمل بطيخ هو رأس ماله، فقال: اليوم أرُدُّ عليك حملك، ثم قال لمن حوله: أريد أن تأتوني ببطيخ، ففتشوا، فإذا في خيمة الحاجب بطيخ، فحملوه إليه، فاستدعى الحاجب فقال: من أين لك هذا البطيخ؟ قال: جاء به الغلمان. فقال: أحضرهم. فذهب فهربهم، فأرسل إليه، فأحضره وسلمه إلى الفلاح، وقال: خذ بيده، فإنه مملوكي ومملوك أبي، فإياك أن تفارقه، فرد عليه حمله، فخرج الفلاح يحمله وفي يده الحاجب، فاستفدى نفسه منه بثلاثمائة دينار.

دعاء ملكشاه لله أن ينصر الأصلح للمسلمين
ولما توجه ملك شاه رحمه الله لقتال أخيه تكش، اجتاز بطُوس، فدخل لزيارة قبر عليَّ بن موسى الرَّضا -على زعم بعض المؤرخين- ومعه نظام الملك، فلمّا خرَجا قال للنَّظام: بم دعوت؟ قال: دعوت الله أن يظفرك على أخيك. فقال: لكني قلت: اللهمَّ إن كان أخي أصلح للمسلمين فظفره بي، وإن كنت أصلح لهم فظفَّرني به. وقد سار ملكشاه هذا بعسكره من أصبهان إلى أنطاكية فما عرف أنَّ أحداً من جيشه ظلم أحداً من رعيتهِ.

الستر على أعراض المسلمين
اشتكى إلى ملكشاه رحمه الله تركماني أن رجلاً افتضَّ بكارة ابنته، وهو يريد أن يمكنه من قتله، فقال له: يا هذا إن ابنتك لو شاءت ما مكَّنته من نفسها، فإن كنت لابد فاعِلاً فاقتلها معه، فسكت الرجل، ثم قال الملك: أوخير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: فإنَّ بكارتها قد ذهبت، فزوَّجها من ذلك الرجل وأمهرها من بيت المال كفايتها، ففعل [16].

واعظ مع ملكشاه
وحكى له بعض الوعّاظ أنَّ كسرى اجتاز يوماً في بعض أسفاره بقرية منفرداً من جيشه، فوقف على باب دار فاستسقى، فأخرجت إليه جارية إناء فيه ماء قصب السُّكر بالثلج فشرب منه فأعجبه، فقال: كيف تصنعين هذا؟ فقالت: إنَّه سهل علينا اعتصاره على أيدينا، فطلب منها شربة أخرى، فذهبت لتأتيه بها فوقع في نفسه أن يأخذ هذا المكان منهم ويُعَوَّضهم عنه، فأبطأت عليه ثم خرجت وليس معها شيء فقال: مالك؟ فقالت: كأن نيّة سُلطاننا تغيَّرت علينا، فتعسَّر علىَّ اعتصاره - وهي لا تعرف أنَه السلطان - فقال: اذهبي فإنك الآن تقدرين، وغير نيته إلى غيرها، فذهبت، وجاءته بشربة أخرى سريعاً فشربها وانصرف. فقال له ملكشاه: هذه تصلح لي، ولكن قُصَّ على الرعيَّة حكاية كسرى الأخرى حين اجتاز ببُستان، فطلب من ناطوره، عنقوداً من حصرم، فإنه قد أصابته صفراء، وعطش. فقال له الناطور: إنَّ السلطان لم يأخذ حقه منه، فلا أقدر أن أعطيك منه شيئاً. قال: فعجب الناس من ذكاء الملك وحسن استحضاره هذه في مقابلة تلك.

إقامة العدل على الأمراء
واستعدى ملكشاه رحمه الله رجلان من الفلاحين على الأمير خُمارتكين أنه أخذ منهما مالاً جزيلاً وكسر ثنيَتيهما وقالاً: سمعنا بعدلك في العالم، فإن أقدتنا منه كما أمرك الله وإلا استعدينا عليك الله يوم القيامة، وأخذا بركابه، فنزل عن فرسه وقال لهما: خُذا بكُمَّى فاسْحبَانى إلى دار نظام الملك، فهابا ذلك، فعزم عليهما، ففعلا ما أمرهما به، فلما علم نظام الملك بمجيء السلطان إليه خرج مسرعاً من خيمته، فقال له الملك: إنَّي قلدتك الأمر لتُنصف المظلوم ممَّن ظلمه، فكتب من فوره بعزل خمارتكين وحلَّ إقطاعه وأن يرد إليهما أموالهما وأن يقلعا ثنيَّتيه إن قامت عليه البيَّنة، وأمر لهما الملك من عنده بمائة دينار.

المال مال الله والعباد عبيده
أسقط مرة بعض المكوس، فقال رجل من المستوفين: يا سلطان العالم إن هذا يعدل ستَّمائة ألف دينار وأكثر. فقال ويحك، إن المال مال الله، والعباد عبيده، والبلاد بلاده، وإنَّما يبقى هذا لي عند الله, ومن نازعني في هذا ضربت عنقه.

إني أغار على هذا الوجه الجميل من النار
غنَّته امرأة حسناء فَطرِب وتاقت نفسه إليها، فهم بها، فقالت: أيها الملك، إنَّي أغار على هذا الوجه الجميل من النار وبين الحلال والحرام كلمة واحدة، فاستدعى القاضي فزوجه بها [17].

أقمت لك جيشاً يسمى جيش الليل
كان نظام الملك يهتم بالعلماء والزهاد والمدارس العلمية وينفق الأموال الضخمة على الأساتذة والطلاب جميعاً، فسعى بالوشاية إلى السلطان ملكشاه خصومه وقالوا له إن نظام الملك ينفق في كل سنة على الفقهاء والصوفية والقراء ثلاثمائة ألف دينار [18]، ولو صرف هذا المال على جيش لرفع رايته على أسوار القسطنطينية، فاستجوب السلطان وزيره فقال له: يا بني أنا شيخ أعجمي لو نودي عليّ لما زادت قيمتي على ثلاثة دنانير، وأنت تركي لتلك تبلغ المائة دينار، وقد أنعم الله عليك وعليّ بواسطتك ما لم يعطه أحداً من خلقه، أفلا تعوضه عن ذلك في حملة دينه وحفظة كتابه بثلاثمائة ألف دينار .. ثم إنك تنفق على الجيوش المحاربة في كل سنة أضعاف هذا المال مع أن أقواهم وأرماهم لا تبلغ رميته ميلاً، ولا يضرب سيفه إلا ما قرب منه، وأنا أقمت لك بهذا المال جيشاً يسمى جيش الليل, قام بالدعاء إذا نامت جيوشك، فمدوا إلى الله أكفهم وأرسلوا دموعهم فتصل من دعائهم سهام [19] على العرش لا يحجبها شيء عن الله، فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون وبدعائهم تثبتون وببركاتهم ترزقون [20] .. فبكى السلطان وقال: شاباش يا أبت شاباش -بالتركي- ومعناه بالعربي: استكثر من هذا الجيش [21].

زواج الخليفة المقتدي بابنة ملكشاه
تزوج الخليفة المقتدي بابنته بسفارة شيخ الشافعية أبي إسحاق، وكان عرسها في سنة 480هـ وعملت دعوة بجيش السلطان ما سُمع بمثلها أبداً، فمما دخل فيها أربعون ألف مَنٍّ سكراً، فولدت له جعفر [22]، وكان ملكشاه يريد أن يجعل الخلافة العباسية تتحول إلى من أمه ابنته، كما زوج ابنته الأخرى إلى المستظهر العباسي ولم يتمكن من حصر الخلافة والسلطنة في شخص حفيده [23].

وصف جهاز ابنة السلطان ملكشاه وزفته
في المحرم نُقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجلّلة بالديباج الرومي، وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة وثلاث عمّاريات، وعلى أربعة وسبعين بغلاً مجلَّلة بأنواع الديباج الملكي، وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من فضة لا يقدر ما فيه من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً من الخيل الرائقة، عليها مراكب الذهب مرصَّعة بأنواع الجواهر، ومهد عظيم كثير الذهب، وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهرائين، والأمير برسق، وغيرهما، ونثر أهل نهر مُعلى عليهم الدنانير والثياب، وكان السلطان قد خرج عن بغداد متصيّداً، ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون، زوجة السلطان، وبين يديه نحو ثلاثمائة موكبيّة، ومثلها مشاعل، ولم يبق في الحريم دكّان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان والأكثر من ذلك, وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم يُر مثلها حُسناً وقال الوزير لتركان خاتون: سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول: {إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَ} [النساء:58]، وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره، فأجابت بالسمع والطاعة، وحضر نظام الملك ومن دونه من أعيان دولة السلطان وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير، وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجمّلها وبين أيديهن الشمع والموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان، بعد الجميع في محفة مجللة، عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء وقد أحاط بالمحفّة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة وسارت إلى دار الخلافة وكانت ليلة مشهودة لم يُر ببغداد مثلها [24].

وفاة السلطان ملكشاه
أخذت علاقة الخليفة المقتدي بالسلطان ملكشاه تسوء شيئاً فشياً، وكانت بداية هذه الانتكاسة تعود إلى سوء التفاهم الذي وقع بين المقتدي وزوجته خاتون ابنة السلطان ملكشاه سنة 482هـ, وقد تطور هذا الخلاف وانكشف أمره عندما أخبرت خاتون أباها بالأمر وشكت له إعراض المقتدي عنها، وعلى الفور أرسل السلطان إلى الخليفة يطلب ابنته التي توجهت إلى بيت أبيها في أصبهان بموكب يليق بها مع ابنها الأمير أبي الفضل جعفر بن المقتدي وما كادت تستريح في بيت والدها حتى فارقت الحياة في السنة نفسها، فتمت التعزية بها في أصبهان ومدينة بغداد، وبدأ السلطان ملكشاه من الآن فصاعداً يخطط لإزعاج الخليفة والانتقام منه عندما تسنح الفرصة [25] وفي سنة 484هـ دخل السلطان مدينة بغداد ومكث في دار المملكة حتى يكون على مقربة من المقتدي، الذي بدأ نفوذه يتقلص أكثر فأكثر حتى لم يعد له من الأمر إلا الاسم، لا يتعدى حكمه بابه ولا يتجاوز جنابه [26]، وأقام السلطان أيضاً عيد ميلاده على نهر دجلة وازدانت بغداد بزينة باهرة في هذه المناسبة، في البر والنهر، وبعد كل ما جرى من تحطيم لمعنويات المقتدي، أقدم السلطان ملكشاه على التدخل المباشر في مصير الخلافة العباسية، وطلب من المقتدي أن يجعل أبا الفضل جعفر ابن بنت السلطان ولياً لعهده بدلاً من ابنه الأكبر الإمام المستظهر بالله الذي كان المقتدي قد بايع له بالخلافة من بعده [27]، وحاول الخليفة أن يتملص من هذا الأمر، إلا أن السلطان كان مصمماً على الانتقام من المقتدي وإجلائه نهائياً عن مدينة بغداد، فحين دخلها سنة 485هـ، بعث إلى الخليفة يقول له: لا بد أن تترك لي بغداد وتنصرف إلى أي البلاد شئت، فانزعج الخليفة من هذا انزعاجاً شديداً ثم طلب من السلطان أن يمهله شهراً واحداً فرفض السلطان وقال: ولا ساعة واحدة. ثم اتصل الخليفة بوزير السلطان تاج الملك أبي الغنائم الذي تمكن من إقناع السلطان أن يمهل الخليفة عشرة أيام كي يرتب أموره ويرحل إلى البصرة أو إلى أي بلد يختاره [28].

وهكذا حل بالمقتدي ذل وهوان لا مثيل له في حياته كلها وهو لا يستطيع أن يرد عن نفسه ولا يستطيع أن يقف في وجه ملكشاه، فالتجأ إلى ربه يدعوه ليلاً ونهاراً أن يفرج عنه ويخرجه من هذا المأزق وكان يقوم الليل ويصوم النهار خاشعاً متضرعاً إلى الله تعالى, وفي هذه الفترة خرج السلطان إلى الصيد فعاد مريضاً ومات قبل أن تنتهي فترة الإنذار التي أعطاها للخليفة وعد هذا الأمر كرامة للمقتدي، وقد تخلص من عار محقق ومأساة واقعة، وهكذا وصل الخليفة إلى درجة من الضعف لا يحسده عليها عدو [29].

وقد علق ابن كثير على دخول ملكشاه إلى بغداد وإرادته إخراج الخليفة منها بقوله: وقدم السلطان بغداد في رمضان بنية غير صالحة، فلقَّاه الله في نفسه ما يتمنَّاه لأعدائه، وذلك أنه لما استقر ركابه ببغداد، وجاء الناس للسّلام عليه والتهنئة بقدومه، وأرسل إليه الخليفة يُهنئهُ بعث إلى الخليفة يقول له: لا بد أن تترك لي بغداد وتتحول إلى أيَّ البلاد شئت، فأرسل إليه الخليفة يستنظره شهراً، فقال: ولا ساعة واحدة، فأرسل يتوسل إليه في إنظاره عشرة أيام، فأجاب إلى ذلك بعد تمنُّع شديد، فما استتم الأجل حتى خرج السلطان يوم عيد الفطر إلى العيد، فأصابته حُمى شديدة، فافتصد فما قام منها حتى مات قبل العشرة أيام ولله الحمد والمنة، وكانت وفاته في السادس عشر من شوال سنة 485 هـ / 1092م [30].

وبموت السلطان ملكشاه انقضى العصر الذهبي للسلطة السلجوقية وبدأ عهد الانقسامات السياسية والحروب بين ورثة العرش السلجوقي مما أدى إلى تشتيت صفوفهم وإضعاف سلطتهم [31].

المصدر: علي الصلابي: دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامى لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

[1] وفيات الأعيان لابن خلكان، 5/ 288. سير أعلام النبلاء للذهبي، 19/ 55.
[2] المنتظم لابن الجوزي، سنة 465هـ، نقلاً عن نظام الملك د. عبد الهادي محبوبة، ص 344.
[3] نظام الملك، د. عبد الهادي محبوبة، ص 344.
[4] المصدر نفسه، ص 345.
[5] البداية والنهاية،16/ 38.
[6] نظام الملك، د. عبد الهادي محبوبة، ص 345- 346.
[7] النجوم الزاهرة لابن تغري بردي نقلاً عن نظام الملك، ص 347.
[8] سير أعلام النبلاء، 19/ 55.
[9] نظام الملك، ص 347.
[10] الكامل في التاريخ لابن الأثير، 6/ 265.
[11] نظام الملك 348.
[12] البداية والنهاية لابن كثير، 16/ 130. [13] البداية والنهاية، 16/ 130.
[14] هو ماء بين القادسية والمغيثة، معجم البلدان، 4/ 92.
[15] سير أعلام النبلاء، 19/ 56.
[16] البداية والنهاية، 16/ 131.
[17] المصدر نفسه، 16/ 133.
[18] في سراج الملوك للطرطوشي: ستمائة ألف دينار، ص 227.
[19] نظام الملك، ص 651.
[20] الحقيقة في نظر الغزالي, د. سلمان دنيا، ص 16.
[21] نظام الملك، ص 261، أخبار الدولة السلجوقية، ص 66، 67.
[22] سير أعلام النبلاء، 19/ 57.
[23] السلاطين في المشرق العربي ص30، الدولة العثمانية للصَّلابي، ص 92.
[24] الكامل في التاريخ، 6/ 308، 309.
[25] المنتظم، 9/ 46، 47، الحضارة الإسلامية في بغداد، محمد حسين، ص 37.
[26] المنتظم، 9/ 57.
[27] وفيات الأعيان، 5/ 288.
[28] المنتظم، 9/ 62، الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 39.
[29] وفيات الأعيان، 5/ 389، الحضارة الإسلامية في بغداد، ص 39.
[30] وفيات الأعيان، 5/ 288. البداية والنهاية، 16/ 122،123.
[31] الكامل في التاريخ، نقلاً عن الحضارة الإسلامية في بغداد في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، ص 40.
رد مع اقتباس


إضافة رد



جديد مواضيع القسم الاسلامي

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ألب أرسلان .. الأسد الشجاع slaf elaf القسم الاسلامي 3 06 - 04 - 2018 12:19 PM
تتش بن ألب أرسلان slaf elaf القسم الاسلامي 1 14 - 02 - 2018 07:02 AM


01:24 AM