إليها الشاعر في مناسبات عديدة كانت تمليها الوقائع والأحداث التي يمر بها كإنسان متفاعل مع الحدث اليومي الذي يواجهه ويتعامل معه , وكانت الميزة الظاهرة لديه أنه شاعر يستأثر به الحدث قبل أن يستأثر هو به , فهو يصف الحالة في وقتها دون تنميق أو تزويق إذ يعتبرها عند ملاقاتها مكتملة مما يدفعه إلى التقاط الصورة بآلته سريعا ومن ثم تحميضها وعرضها فورا لكي يراها المتلقي طازجة دون رتوش لإدراكه أن التزويق يقترب من الزيف إذ يوجب إضافات وحذفا ونقلا , ثم تكون الصورة قد خضعت لعمليات من شأنها أن تخمد الكثير من طزاجة تلك اللقطة الفورية التي كانت تجسد الحالة بصدق.
الشاعر الوقداني شاعر بمعنى الكلمة صورة وموضوعا , فهو يصور الموقف إن كان له أو عليه , فإن غضب قال , وإن سعُد قال, يعاتب ويسامح , ويسخر , ويشاكس:
يهددنا علاء حين أضحى وينذرنا علاء في المساء
ويزعم أننا نهجوه ظلما ونبخل بالقليل من الثناء
وما يدري علاء أن شعري مصون عن لحوم الأبرياء
أنا والله أعرفه وأدري بما يخفيه شيخ الأدعياء
حوى مالاً فصار المال رمحاً لطعن الناس ظلماً في الخفاء
وتكون لقطة الانفعال عندما يجيل طرفه حواليه ويمعن النظر في الحال التي يكون الناس فيها في تعامل مستمر يقدس المادة ويتجاهل الروح , ويكون في الميزان دائما رجحان كفة المال:
لقد عظمت ذنوبي عند قوم فمن ألقاه يمنحني الصدودا
رأوا مالي قليلاً فاستهانوا بما ألقاه فازدادوا جحودا
كأني حين ألقاهم عدو يسارع في عداوتهم حقودا
فلا يغررك من يصغي ويرغي ويثني إن تجاوزت الحدودا
فذلك طامع يرجو نولاً ويبقى الحب ما وجد النقودا
جريدة الرياض مناسبات
وعندما ألمت به وعكة صحية وأخبره الطبيب بأن الأشعة أظهرت وجود حصوات في المرارة عانى منها كثيرا:
أشكو إلى الليل ما ألقاه من عنت والليل قد طال لا يصغي ولا يدري
نامت عيون الورى والكيد منبته أمسى يطاردني في الحل والسفر
إني إلى غايتي لا بد منطلق حتى ولو شاب رأسي وانحنى ظهري
يانفس صبراً على ما كان من ترح فإن تراخى فقد يأتيك فانتظري
تربط الوقداني الشاعر صداقة حميمة تؤازرها زمالة الدراسة مع الشاعر مطلق الثبيتي حيث يكمل أحدهما الآخر , ولكن الموت عاجل مطلق وكانت شهقة الوقداني في فراق الصديق:
هيا اسعفيني بدمع منك هتان فقد نأى اليوم عنا خير إخواني
من كان إن غاب يذكرني وأذكره لأنه حل في قلبي ووجداني
كم أرسل الشعر والآذان مرهفة وأطرب الحشد في بيد وبنيان
نذوب شوقا لألحان يرددها تفيض سحراً سما من نسج فنان
كنا صديقين والإخلاص يجمعنا أبني ويبني بناء فاق بنياني
كنا زميلين حب العلم يربطنا عنوانه في ذرى العلياء عنواني
إذا نظرت إلى المرآة أبصره فنحن روح وفي الأجسام شخصان
تطول الرحلة مع أبي دلامة ولكنّ لها مكاناً آخر يكون أرحب مساحة , وقد رأيت أن أختم زاوية اليوم كما بدأت الأمر ببعض شعره الفكاهي كما يحلو له أن يسميه ويريد أن يكون سمة له تميزه عن سواه ففي أرجوزته المعنونة ب (امرأة أبي دلامة ) يقول:
يا قوم كان لي مَرَة أضراسها مكسرة
عمشاء طمشاء ولا ترى إلا بمنظرة
قصيرة وضخمة كأنها مدمرة
وإن مشت تدحرجت تظن أنها كرة
متى أقف جوارها رأيتني كالقنبرة
وتكره الصمت ولا تحب إلا الثرثرة
تريد إذلالي وأن أكون تحت السيطرة
وربما تجاسرت وهددت بالمسطرة
فادعو معي لعلها غداً تزور المقبرة
كتيبات إن أعد وجدتها مبعثرة
قد مزقت أوراقها وكسرت المحبرة
تقول ابغي حبرها أريد منه بودرة
إبليس من طلابها عنها تلقى ما يشين
نهايتي مشفى العقول أزوره عين اليقين
رحم الله شاعرنا التلقائي محمد ضيف الله الوقداني (أبو دلامة ) ووفق محبيه لجمع ما ترك من أوراق فحتماً لديه الكثير فقد قال في مقدمة ديوانه الأول : "اخترت بعض القصائد وأودعتها هذا الجزء وتركت قصائد أخرى تماثلها وقد لا تقل عنها جودة " فلهذا لعل هناك من سيعنى بما تبقى لأنه يستحق أن يرى النور.
جريدة الرياض مناسبات
المواضيع المتشابهه 
