لو أثار امرؤ سؤالا كهذا قبل عقد أو عقدين من الزمن مثلا، لقيل إنه مصاب بمس من الجنون. كان عندئذ الغرب يغرد ويستدفئ ويتشمس برخاء ورفاهية لم يشهد التاريخ الإنساني لها مثيلا، أساسها تراكم الثروة.
والناس، لانبهارهم الشديد بهذه التجربة الفريدة، قلما كانت تضعها ضمن سياقها الإنساني العام. فالكل تقريبا كان منبهرا إلى درجة الحسد والغيرة، ومقارنة وضعه الشخصي ووضع مجتمعه ودولته المتخلف بالفرد والمجتمع والدولة في الغرب.
والسياق الإنساني يقول إن لكل تطور وظاهرة في هذه الدنيا ذروة أو قمة ـــ أي سقف لا يمكن تجاوزه. ولكن الإنسان بطبيعته يميل إلى تجاوز الحدود، وفي الغرب ظهرت نظريات تدرس حتى في الجامعات مفادها أن النمو الاقتصادي (المادي) لا سقف ولا ذروة له، لأن توقفه أو انخفاضه معناه خلل في الرفاهية والرخاء.
فالدولة والمؤسسة والشركة والمجتمع الذي لا ينمو باطراد ـــ يزداد ثروة ورخاء ـــ بغض النظر عن مستوى النمو والتطور الذي هو فيه، ينكمش اقتصاديا، وبالتالي يفقد جزءا من رخائه ورفاهيته. ولهذا نرى أن الحديث عن النمو الاقتصادي يحتل الصدارة في خطاب القادة الأوروبيين اليوم.
ولكن فات هؤلاء وربما مستشاريهم أن النمو لا بد أن يصطدم بذروة لا يمكن تجاوزها مهما أوتي الإنسان من علم وحكمة. النمو بهذا الشكل يحتاج أولا إلى كوكب لا نهاية لمصادره، والكوكب الذي نعيش فيه مصادره محدودة. ثانيا، النمو بهذا الشكل يفقد خاصيته الإنسانية لأنه يعني الاستيلاء على المصادر التي يوفرها الكوكب على حساب ناس وشعوب وأمم أخرى.
والحضارة الغربية والدول التي تمثلها، رغم ما قدمته للبشرية من إنجازات مذهلة في شتى الميادين، غمرتها الماديات على حساب كثير من القيم الإنسانية عند تعلق الأمر بأننا كلنا شركاء في هذا الكوكب. الروح المادية هذه أفرزت قيما غير أخلاقية منحت الحق لأقلية من البشر (تمثل تقريبا واحدا من كل 20 شخصا على الأرض) بالتنعم والاستمتاع بأكثر من 70 في المائة مما تنتجه هذه الأرض من مواد أساسية للاستهلاك البشري.
وفجأة رأت بعض الدول الغربية أن نظرية النمو المطرد والتراكم الذي لا سقف له للثروة لا تتماشى مع الواقع، وأن فقدان جزء من الثروة والرخاء أمر لا بد منه، لأن الصراع على مصادر كوكبنا المحدودة وتراكم الثروة لم يعد مقتصرا عليها، حيث دخلت الحلبة دول يمثل عدد سكانها نحو نصف سكان الأرض.
ولأول مرة ومنذ سيطرتها شبه المطلقة على مصادر الرخاء التي يوفرها كوكبنا بدأت الدول الغربية تشعر بأنه عليها التعامل مع الواقع بعقلانية، وأن عهد الرفاهية الذي لا حدود له قد ولّى وربما إلى غير رجعة.
والشاهد على ما أقول ما يحدث اليوم في اليونان وإسبانيا ـــ وقريبا ستلحقهما دول أوروبية أخرى ـــ حيث تشهد البلدان سقوط ركن بعد الآخر من الصرح الذي يستند عليه مجتمع الرفاهية والرخاء في الغرب.
في اليونان بدأت المؤسسات العامة التي تعنى برعاية الكبار ـــ وهذا ركن من أهم أركان الرفاهية المادية بالنسبة للحضارة الغربية ـــ في الانهيار، ومعها الرعاية الصحية المجانية للأشخاص الذين يعانون أمراضا مزمنة ومستعصية، ولحقتها أخيرا الخدمات التي تقدم للمعوقين. وهذا غيض من فيض.
أما في إسبانيا فما حدث أخيرا يذكرنا بدول نامية فقيرة في إفريقيا أو دول تئن تحت وطأة كوارث طبيعية، حيث ناشد ''الصليب الأحمر'' في آخر بيان له الدول والأفراد التبرع للفقراء والمعدمين الذين أخذت أعدادهم في الازدياد في هذا البلد.
عندما قرأت الالتماس الذي قدمه ''الصليب الأحمر'' بخصوص إسبانيا على صفحات الصحافة العالمية ومن ضمنها الـ ''بي بي سي'' لم أصدق عينيَّ. كان الصليب الأحمر سابقا يطلب المعونة للمهاجرين الأجانب في إسبانيا. اليوم المنظمة تقول هناك أكثر من 300 ألف إسباني في حاجة ماسة إلى مواد غذائية أساسية.
هذا درس في الاقتصاد والتنمية، وأظن هناك الكثير للتعلم منه بقدر تعلق الأمر بالدول العربية والإسلامية.
المصدر: الاقتصادية
التوقيع
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الاحياء منهم والاموات...