المواطنة فى الإسلام
يقول الدكتور محمد عمارة، عضو هيئة كبار العلماء إن المواطنة: مفاعلة أى تفاعل بين الإنسان المواطن وبين الوطن الذى ينتمى إليه ويعيش فيه وهى علاقة تفاعل، لأنها ترتب للطرفين وعليهما العديد من الحقوق والواجبات فلابد لقيام المواطنة أن يكون انتماء المواطن وولاؤه كاملين للوطن، يحترم هويته ويؤمن بها وينتمى إليها ويدافع عنها، بكل ما فى عناصر هذه الهوية من ثوابت اللغة والتاريخ والقيم والآداب العامة والأرض التى تمثل وعاء الهوية والمواطنين.. وولاء المواطن لوطنه يستلزم البراء من أعداء هذا الوطن.
وكما أن للوطن هذه الحقوق على المواطن، فإن لهذا المواطن على وطنه وشعبه وأمته حقوقا كذلك، من أهمها المساواة فى تكافؤ الفرص، وانتفاء التمييز فى الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسبب اللون أو الطبقة أو الاعتقاد، مع تحقيق التكافل الاجتماعى الذى يجعل الأمة والشعب جسدا واحدا.. وإذا كان التطور الحضارى الغربى لم يعرف المواطنة وحقوقها إلا بعد الثورة الفرنسية، بسبب التمييز على أساس الدين بين الكاثوليك والبروتستانت وعلى أساس العرق بسبب الحروب القومية وعلى أساس الجنس بسبب التمييز ضد النساء وعلى أساس اللون فى التمييز ضد الملونين.. فإن المواطنة الكاملة فى الحقوق والواجبات.. قد اقترنت بالإسلام، وتأسيس الدولة الإسلامية الأولى فى المدينة المنورة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووضعت الدولة الإسلامية فلسفة المواطنة هذه فى الممارسة والتطبيق، وقننتها فى المواثيق والعهود الدستورية منذ اللحظة الأولى لقيام هذه الدولة فى السنة الأولى للهجرة.. ففى أول دستور لهذه الدولة تأسست الأمة على التعددية الدينية، ونص الدستور «الصحيفة» على أن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.. وأن لهم النصر والأسوة مع البر من أهل هذه الصحيفة.. ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.. على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
هكذا تأسست المواطنة، بالإسلام، فى الدولة الإسلامية، عندما جمعت الأمة أهل الديانات المتعددة، على قدم المساواة، لأول مرة فى التاريخ.. وعندما بدأت العلاقات بين سلطة الدولة الإسلامية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المتدينين بالنصرانية نصارى نجران سنة 10 هـ قررت لهم الدولة الإسلامية بالعهود الموثقة كامل المساواة فى حقوق المواطنة وواجباتها، وكان الشعار هو: «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين».. ولقد نص العهد الذى كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران ولكل النصارى عبر الزمان والمكان على أن لنجران وحاشيتها، وسائر من ينتحل النصرانية فى أقطار الأرض، جوار الله وذمة محمد رسول الله، على أموالهم وأنفسهم وملتهم.. وبيعهم، وكل ما تحت أيديهم.. أن أحمى جانبهم، وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان ومواطن السياح.. وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا بما أحفظ به نفسى وخاصتى وأهل الإسلام من ملتى.. لأنى أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم.. وعندما أباح الإسلام زواج المسلم من الكتابية اليهودية والنصرانية أسس ذلك على شرط احترام عقيدتها الدينية احتراما كاملا.. ولابد فى الزواج من رضا الأهل.
بل لقد بلغت آفاق المساواة فى حقوق المواطنة إلى الحد الذى نص فيه عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النصارى على مساعدة الدولة الإسلامية لهم عند الحاجة فى بناء دور عبادتهم وترميمها.. وجاء فى هذا العهد والميثاق النبوى: «ولهم إن احتاجوا إلى مرمة بيعهم وصوامعهم أو شىء من مصالح أمورهم ودينهم إلى رفد (أى دعم وإعانة) من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يرفدوا على ذلك ويعاونوا ولا يكون ذلك دينا عليهم، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله لهم، ومنة لله ورسوله عليهم».
الولاء للوطن
وحتى فى المسائل المالية والاقتصادية مثل الخراج والضرائب نص عهد رسول الله للنصارى على أنه «لا يجار عليهم، ولا يحملون إلا قدر طاقتهم وقوتهم على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمرتها، ولا يكلفون شططا، ولا يتجاوز بهم أصحاب الخراج من نظرائهم».
وكل حقوق المساواة فى المواطنة، التى قررها الإسلام لغير المسلمين فى الدولة الإسلامية «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.. وحماية الأنفس والدماء والأموال والأعراض وأماكن العبادة والحريات» هى فى مقابل الولاء الكامل للوطن والانتماء الخالص للمجتمع والدولة والأمة وهى واجبات على كل المواطنين، المسلمين منهم وغير المسلمين.
كذلك نص عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للنصارى على الحرية الدينية.. فجاء فيه: ولا يجبر أحد ممن كان على ملة النصرانية كرها على الإسلام، ويخفض لهم جناح الرحمة، ويكف عنهم أذى المكروه حيث كانوا، وأين كانوا من البلاد. كذلك، قرر الإسلام فى دستور دولة المدينة أن الشريعة الإسلامية كما هى ضامنة للحقوق والواجبات فى المواطنة فإنها هى المرجع عند الاختلاف.. فنص هذا الدستور على «أنه ماكان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله».
نص ميثاق صحيفة المدينة
هذا كتاب من محمد النبى، رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
إنهم أمة واحدة من دون الناس.
المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الحارس، من الخزرج، على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو سعادة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنى الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وأن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف فى فداء أو عقل، وألا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم.
ولا يقتل مؤمن مؤمناً فى كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.
وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس.
وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن فى قتال فى سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضهم بعضاً.
وأن المؤمنين يبئ بعضهم عن بعض بما نال دماؤهم فى سبيل الله.
وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن.
وأنه من اعتبط مؤمناً قتلاًَ عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولى المقتول بالعقل، وأن المؤمنين عليه كافة لا يحل لهم إلا قيام عليه.
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما فى هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه، وأنه من نصره أو أواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
وأنكم مهما اختلفتم فيه من شىء فإن مرده إلى الله وإلى محمد.
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وأن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو إثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وأن ليهود بنى النجار مثل ما ليهود بنى عوف.
وأن ليهود بن الحارث مثل ما ليهود بنى عوف.
وأن ليهود بنى ساعدة مثل ما ليهود بنى عوف.
وأن ليهود بنى جشم مثل ما ليهود بنى عوف.
وأن ليهود بنى الأوس مثل ما ليهود بنى عوف.
وأن ليهود بنى ثعلبة مثل ما ليهود بنى عوف إلا من ظلم وإثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
وأن لبنى الشطبية مثل ما ليهود بنى عوف وأن البر دون الإثم.
وأن موالى ثعلبة كأنفسهم.
وأن بطانة يهود كأنفسهم.
وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد.
وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هذا.
وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
وأنه لا يأثم أمره بحليفه وأن النصر للمظلوم.
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وألا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله، وأن الله على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبره.
وألا تجار قريش ولا من نصرها.
وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب فى الدين.
على كل أناس حصتهم من جانبهم الذى قبلهم.
وأن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما فى هذه الصحيفة وأبره.
وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو إثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .