رغم أنني كنت نعسى في البداية، إلا أن النوم خاصمني ذلك الصباح.. وليد جلس في الصالة يقرأ القرآن، و جلست أنا على مقربة أنصت إليه.. إلى أن عاد الرجل العجوز بعد طلوع الشمس.. فختم وليد قراءته و راح يتحدّث معه.. كانا يتحدثان بشأن المزرعة و ما سيفعلانه هذا اليوم.. و كنت أستمع إليهما ببلاهة ! فأنا لا أفقه كثيرا مما يذكرون ! وليد التفت إلي ّ الآن و قال : " سوف أخرج للمزرعة الآن، أتأتين معي ؟؟ " وقفت من فوري و تقدّمت ناحيته.. قال متما عبارته السابقة ببطء : " أم.. تفضلين العودة للنوم ؟ " " سآتي معك.." و خرجت معه إلى المزرعة.. الهواء كان باردا و كنت أرتدي العباءة فوق ملابس النوم، لذا شعرت بالبرودة تخترق عظامي قال وليد : " سنبدأ بجولة تفقدية " حذائي كان عالي الكعب و لا يصلح للسير على الرمال، لذلك طلب مني وليد ارتداء أحد الأحذية المطاطية الموجودة عند مدخل المنزل... سرنا في اتجاه شروق الشمس.. و كم كان منظرا جميلا لم أر مثله منذ زمن... الرياح كانت في مواجهتنا، تغزو أنفي رغما عني ، و تزيد من شعوري بالبرد.. أخذت أفرك يدي بتكرار.. أما وليد فكان يسير بثبات في وجه الريح ، و لا يبدو على جسمه أنه يتأثر بها ! كالجبل تماما ! قال لي: " الجو بارد.. أتفضلين العودة للمنزل ؟ " " ماذا عنك ؟ " قال : " سأبدأ حرث منطقة معينة هنا، سنقوم بزرع بذور حولية جديدة فيها.. " و أشار إلى المنطقة المقصودة... قلت : " أنت تحرثها ؟؟ " و يبدو أن سؤالي هذا ضايقه أو أحرجه.. نظر إلي برهة صامتا ثم قال و هو يحدّق في تلك المنطقة : " نعم أنا يا رغد.. فهذا هو عملي هنا.. و من هذا العمل أعيش و أعيل نفسي.. و صغيرتي .." ثم التفت إلي و قال : " فهل يصيبك هذا بخيبة أمل أو .. اشمئزاز ؟ " قلت بسرعة : " لا ! لم أٌقصد ذلك.. " " إذن ؟ " " تعرف يا وليد.. فخلال التسع سنين الماضية كنت أعتقد أنك... " و بترت جملتي.. فقد أحسست أن هذا يؤلمه.. و إذا تألم وليد قلبي فأنا أموت .. قلت : " لكن ، ألا يمكنك مواصلة الدراسة الآن ؟؟ " قال : " إنني أدرس الآن في معهد محلي، و إن تخرجت منه بشهادة معتبرة فستكون لدي فرص أفضل للعمل ، لكن إلى ذلك الوقت سأظل مزارعا " لم يعجبني ذلك، فأنا لا أريد لوليد أن يغمر يديه في التراب ..، بل أن يعلو السحاب، لكني لم أشأ إحراجه، فقلت : " أتمنى لك التوفيق " ابتسم وليد ابتسامة رضا، و تابعنا الطريق... بقيت أراقبه و هو يعمل، تارة شاعره بإعجاب به ، و تارة شاعرة بشفقة عليه ، و تارة بغضب من الأقدار التي أوصلت ابن عمّي إلى هذا المستوى.. ليتني أستطيع منحه ثمان سنين من عمري، تعويضا عما خسر.. بل ليتني أهديه عمري كله.. و كل ما أملك.. الحماس الذي تملكني أثناء مراقبة وليد ، و الحرارة التي تنبعث من جسده و هو يعمل بجهد، و من صدره و هو يتنفس بعمق، و من عينيه و هو ينظر إلي ، كل هذه تجمعت معا متحدة مع أشعة الشمس التي ترتفع في السماء، و أكسبتني دفئا و حيوية لا نظير لهما !... بعد فترة ، أقبلت أروى.. و الآن، لست فقط أشعر بالدفء ، بل و بالاشتعال ، و الاحتراق أيضا ... " صباح الخير رغد ! نهضت باكرة ! " باكرة جدا ! كم تبدين حيوية و نشطة بعد نوم هانىء ! أنا لم أنم كما ينبغي .. قلت : " صباح الخير" وليد كان موليا ظهره إلينا هذه اللحظة ، رفعت أروى صوتها ، و كذلك يدها و هتفت و هي تلوّح : " صباح الخير يا وليد " وليد استدار و نظر إليها و رد التحية... هتفت : " تعال ، فقد أعددنا الفطور " قال : " حسنا ، أمهليني دقيقتين اثنتين " و أتم ما كان يقوم به ... أروى التفت إلي و قالت : " أعددت فطورا مميزا من أجلك ! آمل أن يعجبك طهو يدي ! الجميع يصفني بالطاهية الماهرة ، و وليد يعشق أطباقي ! " وليد ماذا ؟ يعشق أطباقها ؟؟ يا للمغرورة ! قلت : " وليد يعشق أطباق والدتي فهي لا تقارن بشيء ! " أروى قالت : " رحمها الله " و تذكرت أنه لم يعد لدي والدة ! و لم يعد بإمكان وليد تذوّق تلك الطبخات اللذيذة التي يلتهمها عن آخرها... ضاق صدري لهذه الذكرى.. و أحنيت رأسي إلى الأسفل بحزن.. أورى لاحظت ذلك فقالت : " آسفة.. " لم أتجاوب معها... ، قالت : " كم كنت متشوقة للتعرف إليها فقد حدّثني وليد عنها كثيرا.. و كان ينتظر عودتها بفارغ الصبر .. " رفعت نظري الآن إليها، ليس الحزن هو البادي على وجهي بل الغيظ ! لماذا تتحدّث عن وليد أمامي ؟؟ و لماذا يتحدّث إليها وليد عن أمي ؟ أو عن أي شيء آخر في الدنيا ؟؟ هذه الدخيلة لا تمت إلينا بصلة و لا أريد لمواضيعنا أن تذكر على مسمع منها ... وليد كان يمشي مقبلا نحونا.. و حين وصل ، شبكت أروى ذراعها اليمنى بذراعه اليسرى و هي تبتسم بسرور ... وقفت أنا أنظر إليهما بغيظ و تحذير ! ما لم تفرقا ذراعيكما عن بعض فسأقطعهما ! لم يفهما تحذيري، بل سارا جنبا إلى جنب على هذا الوضع.. سرت أنا إلى الجانب الأيمن من وليد... و سرنا و نحن ندوس على ظلالنا.. و التي يظهر فيها جليا تشابك ذراعيهما .. حسنا ! من تظن هذه نفسها ؟ وليد ابن عمّي أنا و ولي أمري أنا! و بدون تفكير، رفعت أنا ذراعي و أمسكت بذراع وليد اليمني بنفس الطريقة ، و بكل تحدي ! وليد نظر إلي بسرعة و بنفس السرعة أضاع أنظاره في الرمال التي نسير فوقها... و بدا وجهه محمرا ! لكنه لم يسحب ذراعه مني .. تابعنا السير و أنا أراقب الظل أمامي... و لم أترك يده حتّى فعلت هي ذلك... ! صحيح أن الفطور كان شهيا إلا أنني أصبت بعسر هضم من مشاهدة العلاقة الحميمة بين وليد و أروى.. كانا يجلسان متقابلين، و تجلس أم أروى على رأس المائدة، و أنا إلى جانب وليد، أما العجوز فلم يكن معنا بطبيعة الحال... لا أريد منهما أن يجلسا متقابلين، و لا متجاورين، و لا في نفس المنزل، و لا حتى على نفس الكوكب.. فيما بعد، عاد وليد للعمل في المزرعة و أروى تشاركه ، و أنا أتفرّج عليهما بغضب.. و أحاول الإنصات جيدا لكل ما يقولان.. أراد وليد بعد ذلك الذهاب إلى مكان ما لإحضار بعض الأشياء، و سألني إن كنت أرغب في مرافقته، أجبت بسرعة : " طبعا سأذهب معك ! هل ستتركني وحدي ؟؟" أتذكرون سيارة الحوض الزرقاء التي ركبتها ذات يوم، للذهاب إلى المستوصف ؟ إنها هي.. نفس السيارة التي يحتاجها وليد في مشواره. فيما كنا نقترب منها أقبلت أروى مرتدية عباءتها و وشاحها الملون، قائلة : " أوصلني للسوق سأشتري بعض الحاجيات " و اقتربت من الباب و فتحته، فسار وليد نحو باب المقود.. و قبل أن ترفع أروى رجلها إلى العتبة، أسرعت أنا و ركبت السيارة لأجلس فاصلا بينهما! هذا ابن عمي أنا.. و أنا الأقرب إليه من كل بنات حواء ، و أبناء آدم أيضا ... أليس كذلك ؟؟ و من السوق اشتريت أنا أيضا بعض الأشياء، من ضمنها عدّة للرسم ، فالمزرعة و مناظرها البديعة أعجبتني كثيرا .. و لسوف أقضي صباح الغد في رسم مناظر خلابة منها ، عوضا عن مراقبة وليد و هو يعمل... عندما عدنا ، وجدنا ترتيب أثاث الصالة قد تغيّر، لقد قام العجوز و أخته بنقل المقاعد من المجلس إلى الصالة، و نقل سرير وليد من الغرفة الخارجية إلى المجلس ! استغرب.. أي قوّة يملك هذا العجوز ليحرك هذه الأثقال ! ما شاء الله ! قالت أم أروى : " ها قد أصبحت لديك غرفة داخلية يا وليد.. هل تحس بالاطمئنان على ابنة عمّك الآن ؟؟ " وليد ابتسم، و وجهه متورد .. و شكر الاثنين .. ثم التفت إلي و قال : " أيريحك هذا أكثر ؟ " كنت أقف إلى جواره .. رفعت رأسي و همست في أذنه : " لكن ابق الباب مفتوحا " رواية انت لي الحلقة 46 كاملة
وليد ابتسم، و قال : " حاضر " همست : " و اطلب منهم إعادة أحد المقعدين الكبيرين للداخل، أو قم أنت بذلك " وليد تعجّب و قال : " لم ؟ " قلت : " احتياط ! ربما تظهر الأشباح ثانية " ضحك وليد، و البقية أخذوا ينظرون إليه باستغراب ! قال : " حاضر ! " قلت هامسة : " قبل الليل " قال : " حاضر سيدتي ! كما تأمرين .." و حين يقول وليد قلبي ذلك.. فأنا أشعر بدغدغة ناعمة تسري في جسدي ابتداء من باطن قدمي ّ و حتى رموش عيني ّ ! و من أطراف تلك الرموش ألقيت بنظرة حادة على أروى و أنا أخاطبها في رأسي : " أرأيت ِ ؟ ستعرفين من تكون رغد بالنسبة لوليد.. و لن أكون رغد ما لم أزيحك عن طريقي ! " ~ ~ ~ ~ ~ ~ مضت الأيام هادئة و مستقرة ، و انشغالي بالعمل جعلني أتناسى وفاة والدي ّ و الحزن الذي خلّفه... بصعوبة تمكنت من إقناع رغد بالبقاء في المزرعة أثناء غيابي كل يوم في فترة الدراسة.. و لأنها كانت فترة صباحية، و لخمسة أيام في الأسبوع، فإننا لم نعد نلتقي إلا عند الظهيرة... و أثناء عملي في الحقل، تقوم هي بمراقبتي أو برسم بعض اللوحات.. بينما أروى تساعدني أو تساعد أمها في شؤون المنزل.. أنا كنت أقوم بعمل مضاعف و بأقصى ما أمكنني ، و لساعات أطول.. و رسمت بعض الخطط لتطوير المزرعة و الاستعانة ببعض العماّل الثابتين.. رغد بدأت تتأقلم مع العائلة و تشعر بالانتماء إليها بعد فترة من الزمن.. و صارت تساهم في بعض أعمال المنزل البسيطة، و التي لم أكن أنا أريد تحميلها عبئها، لولا أن الظروف قضت بذلك.. تعذّر علينا زيارة سامر نهاية الأسبوع الأول، إلا أننا زرناه في الأسبوع التالي، و في الواقع.. خرجت من تلك الزيارة متضايقا لما أثارته في قلبي من الذكرى الأليمة .. ذكرى والدي ّ.. سامر لم يبد أنه خرج من الأزمة بعد.. بل كان غارقا في الحزن.. و حتى زيارتنا له لم تحرز تقدما معه.. أما دانة ، فاتصلت بها مرات ثلاث خلال الأسبوعين، و أعطتني الانطباع بأنها امتصت الصدمة و في طور النقاهة.. عدا عن ذلك ، فهي سعيدة و مرتاحة مع زوجها و عائلته في تلك البلد.. أوضاع بلادنا لم تتحسن، بل بقيت بين كر و فر..مد و جزر.. أمدا طويلا.. الشيء الذي بدأ يقلقني هو الملاحظة التي أبدتها لي أروى إذ قالت : " يبدو أن رغد تعاني اضطرابا نفسيا يا وليد.. إنها لا تنام بسهولة.. بل تبقى لما لا يقل عن الساعة تتقلب في الفراش، و أحيانا تجلس.. و تنهض.. و تذرع الغرفة جيئة و ذهابا في توتر.. و في أحيان أخرى، أسمعها تتحدّث أثناء النوم.. أو تصحو و تبكي و تنادي أمها ! أعتقد أن وفاة والدتها قد أثرت عليها كثيرا .. " سألتها يومها : " هل يتكرر ذلك كثيرا ؟؟ " " تقريبا كل ليلة ! كما و أنها تصر على إبقاء مصباح النوم مضاء ً بينما أنزعج أنا من النوم مع وجود النور ! " هذه الأمور لاحظتها أروى التي تشارك رغد في الغرفة، و التي يبدو أنها تعاني منها منذ فترة دون أن يلحظها أحد... و هذه الأمور جعلتني أقلق بشأنها.. و أفكر في طريقة تجعلها تنام بطمأنينة و نوما هادئا.. و هداني الله إلى هذه الفكرة... عندما كانت صغيرة ، رغد كانت تعشق سماع القصص.. و تطالبني بها كل ليلة حتى تنام بهدوء و قرّة عين.. و لأنها كبرت الآن، فلم يعد هناك مجال لتك القصص! و لكن.. لدينا كتاب هو أجل و أعظم من أي كتاب، و بذكر ما فيه تطمئن القلوب.. إنه القرآن. في كل ليلة، قبيل نومهما أبقى مع رغد و أروى في غرفتهما و أتلو ما تيسر من آيات الذكر الحكيم .. و تظل رغد منصتة إلي، إلى أن يغلبها النعاس فتنام بهدوء و سكينة.. في إحدى الليالي، و بعدما نامت رغد، خرجنا أنا و أروى من الغرفة .. لم نكن نشعر بالنعاس وقتها، فطلبت مني أروى القيام بجولة قصيرة معها في المزرعة .. " لكن.. رغد تمانع خروجي و هي بالداخل، أو دخولي و هي بالخارج.. " " لكنها نائمة الآن " " نعم و لكن .. " " هيا يا وليد ! إننا لم نتحدّث مع بعضنا منذ حضورها ! لم تفارقك ساعة واحدة إلا للنوم ! " استأت من كلام أروى و قلت : " أرجو ألا يكون وجودها قد أزعجك بشيء ؟ " " لا لا ، لا تسىء فهمي، أقصد أنني أريد التحدث معك حديثا خاصا بنا أنا و أنت ! كأي خطيبين.. " و أمسكت بيدي و حثّتني على السير معها إلى الخارج... حديثنا كان في بعض شؤوننا الخاصة.. و كانت أروى تتكلم بسرور .. بل كانت في قمّة السعادة.. و أخذنا الحديث لساعة من الزمن.. فجأة ، سمعت صوت رغد يناديني ... " وليــــــــــد " سحبت يدي من يد أروى و ركضت مسرعا نحو المنزل ... رغد كانت تقف في الساحة الأمامية تتلفت يمنة و يسرة.. " أنا هنا رغد " و لوّحت بيدي، و أنا راكض باتجاهها... لما رأتني رغد... وضعت يدها على صدرها و تنهدّت بقوة... و حين صرت أمامها مباشرة، أمكنني رؤية علامات الفزع على وجهها و الذعر المنطلق من عينيها... " صغيرتي ماذا حصل ؟؟ " " إلى أين ذهبت ؟؟ " " هنا في المزرعة، أتمشى قليلا " و ظهرت الآن أروى فألقت عليها رغد نظرة .. ثم نظرت إلي .. و بدأت تعبيرات وجهها تتغير حتى صارت إلى الحزن و البكاء .. " صغيرتي ما بك ؟ " قالت رغد فجأة : " إذن هذا ما تفعله ؟ تتركني أنام وحدي و تخرج للتنزه مع خطيبتك ؟؟ " فوجئت بقولها ، أردت أن أوضّح لها أنها المرة الأولى التي نخرج فيها .. لم تعطني المجال، بل قال و هي مجهشة بكاء: " إذا لم تكن متفرغا لرعايتي فارسلني إلى خالتي.. إذا كنت ُ عبئا يعوق دون تنزّهك مع خطيبتك فخذني لبيت خالتي و تخلّص منّي " و انفجرت بكاء ً... لم استوعب كلامها أول الأمر.. قلت مذهولا : " رغد ! ما الذي تقولينه !؟ " قالت : " كنت أعرف أنها نهايتي.. ضعت ُ بعد والدي ّ .. لماذا ذهبا و تركاني؟ لمن تركتماني يا أمي و يا أبي ؟ يا لهواني على الناس أجمعين .. خذني يا رب إليهما.. خذني يا رب إليهما " لم أتحمّل سماعها تدعو على نفسها هكذا .. صرخت : " كفى يا رغد أرجوك.. ماذا حصل لكل هذا ؟؟ " " و تسأل ؟؟ " " فقط لأنني خرجت من المنزل و أنت بداخله ؟ " قالت أروى : " أنا من طلب منه ذلك، لم أكن أتوقع أن يضايقك الأمر لهذا الحد " رغد نظرت إلى أروى نظرة غضب و صرخت : " اسكتي أنت ِ " قالت أروى : " أنا آسفة " لكن رغد عادت تصرخ : " قلت اسكتي أنت.. ألا تسمعين ؟؟ " أروى شعرت بالحرج، فغادرت الساحة عائدة إلى المنزل... لم يكن تصرفا لائقا.. و أعرف أنه ليس بالوقت المناسب لأعاتب رغد عليه.. لكنني قلت : " إنها قلقة بشأنك " و يبدو أنها لم تكن الجملة المناسبة, لأن وجه رغد ازداد غضبا ، و قالت بحدّة : " هل تخشى على مشاعرها لهذا الحد ؟ إذن هيا اذهب و طيّب خاطرها .. و دعني أنا أناجي الميتين، فلربما سمعاني و أحسا بهواني و ضياعي بعدهما ، و خرجا من قبريهما و أتيا إلي.. و أخذاني معهما .. و أرحتك مني " و مرّة أخرى تدعو على نفسها بالموت أمامي .. قلت بحدّة : " كفى يا رغد كفى.. " رغد صرخت : " لا تصرخ بوجهي " " أنت تثيرين جنوني.. كيف تدعين على نفسك و أمامي ؟؟ " و عوضا عن التراجع ، رفعت بصرها و يديها إلى السماء و راحت تهتف بصوت عال : " يا رب خذني إليهما.. يا رب خذني إليهما .. يا رب خذني إليهما " ثم جثت على الأرض و صارت تبكي بقوة و مرارة... مخفية وجهها خلف يديها لم أعرف لم كل ذلك.. إلا أنني لم أحتمل.. هويت إلى جانبها، و ناديتها بلطف ، و لم تجبني... أبعدت ُ يديها عن وجهها و قلت بعطف : " كفى أرجوك.. " نظرت إلي ّ نظرة لم أفهم طلاسمها... مددت يدي و مسحت على رأسها من فوق الحجاب، و قلت : " أنا آسف يا صغيرتي.. أعدك بألا أخرج من المنزل ما دمت ِ فيه دون علمك و رضاك.. " لم يتوقف سيل الدموع.. قلت : " أرجوك رغد.. لا تجعلي المزيد من اللآليء تضيع هباء ً .. آسف و لن أكررها ثانية .. " تحدّثت أخيرا و قالت : " و إن طلبت منك الشقراء ذلك ؟ " قلت : " لا تهتمي.. " قالت : " وليد .. أنا أرى كوابيس مفزعة.. أمي.. أبي.. الحرب.. النار .. الحريق.. الجمر.. عمّار.. كلهم يعبثون بأحلامي.. لا أحد ليشعرني بالأمان.. سأموت من الخوف ذات ليلة.. سيتوقف قلبي و أموت فزعا.. و لا أحد قربي.. " جذبتها إلي بسرعة، و أمسكتها بقوّة.. كحصن منيع يعوق أي نسمة عابرة من أذيتها... " أعوذ بالله.. بعد ألف شر و شر يا عزيزتي.. لا تذكري الموت ثانية أرجوك يا رغد.. رأيت منه ما يكفي.. حاشاك أيتها الغالية " نعم، رأيت من الموت ما يكفي.. ابتداءً بعمّار.. و مرورا بنديم و رفقاء السجن.. و عبورا على المدينة المدمّرة .. و انتهاء ً بوالدي ّ الحبيبين... أبعدتها و قلت : " أنا آسف، سامحيني هذه المرّة .." رغد مسحت بقايا الدموع .. و قالت : " لقد قلت مترا ، ألم تقل ذلك ؟ " نظرت إليها بتعجّب.. و عدم فهم ! " أي متر ؟ " قالت : " هذا الذي ستفقأ عينيك إذا ما ازداد طوله فيما بيننا" و تذكّرت حينها الجملة التي قلتها قبل أسابيع ، في آخر يوم لنا في شقة سامر قبل الرحيل ! و الآن ماذا ؟؟ رغد تمد يدها اليمنى ، و قد أبرزت إصبعيها السبابة و الوسطى ، و ثنت الأصابع الأخرى، و تحرّكها بسرعة نحو وجهي و توقفها أمام عيني مباشرة ، و تقول : " أ أفقأهما لك الآن ؟؟ " قلت لكم.. ستصيبني هذه الفتاة.. بالجنون ! ~ ~ ~ ~ ~ رواية انت لي الحلقة 46 كاملة