كنا في طريق العودة من الأهرام قرب الفجر حين خرج عبدالوهاب مطاوع عن صمته وسألني: إذا مت يا أسامة.. ماذا ستكتب عني؟فاجأني فقلت: أمد الله في عمرك.. حد عارف مين حيسبق مين؟.. دي الاعمار بيد الله ياعمنا..
واصل الصمت فأدركت أنه ينتظر مني المختصر المفيد فقلت: سأكتب كان رجلا محترما وأمينا..
تنهد وسكت قليلا ثم قال: أريد أن أوصيك بسطر واحد تكتبه عني إذا أردت..
هدأت من سرعة السيارة وأنصت فقال: اكتب أني في اليوم الأول الذي تحملت فيه مسئولية( بريد الجمعة) عاهدت الله ألا أقدم علي قول أو فعل أنصح القراء بتجنبه..
لم يزد فلم أستزده وواصلنا الصمت الرحيم.. وعند باب بيته في نهاية شارع مصر والسودان بحدائق القبة توقفت فحمل حقيبته ونزل..
- تصبح علي خير..
- وحضرتك من أهله..
...........
إيييه ياعبدالوهاب!!.. ماذا بك؟!.. مريض؟!.. ومن منا سليم ياصاحبي.. وهل يحتاج الموت لسبب؟!.. سلم أمرك لله ياعمنا فهو سبحانه الرحيم بعباده في الدنيا والآخرة.. ثم تعال هنا وقل لي هل مثلك في حاجة لأن أكتب عنه هذا السطر بعد وفاته؟!.. هل كان من الممكن أن تحظي ياعبدالوهاب بكل هذه الثقة التي توليك إياها كل الأسر المصرية والعربية إلا إذا كنت صادق القول, صادق الفعل, لا تطالب غيرك بغير ما تلزم به نفسك؟!.. ياعم عبدالوهاب الورق يشف عن مكنون نفس الكاتب فان كان صادقا صدقه الناس, وأقبلوا علي ما يكتبه, وان كان كاذبا كذبوه وان كان حلو العبارة معسول الكلام...
عرفتك ياعبدالوهاب قبل أن تتولي( بريد الجمعة) ومن بعد ما توليته وأشهد الله أنك لم تتغير علي مدي خمس وثلاثين سنة.. عبدالوهاب مسئول صفحة( الوجه الآخر) المعنية بالمحافظات في منتصف السبعينيات, هو عبدالوهاب المسئول عن( أول صفحة اقتصاد يومية بالأهرام) تتلمذ علي يديه فيها كل الزملاء الذين أصبحوا رؤساء تحرير ورؤساء أقسام يعتمد عليهم, وهو نفسه عبدالوهاب المسئول عن( بريد الأهرام اليومي) الذي أصبح علي يديه واحة لكتابات الناس الطازجة التي لا تقل عمقا واخلاصا لله والوطن عن كتابات كبار ومشاهير الكتاب, هو نفسه عبدالوهاب الذي جعل من( بريد الأهرام) مؤسسة اجتماعية ترعي المرضي واليتامي والأرامل والمحتاجين, يتلقي مساعدات أهل الخير, ويوجهها بأمانة إلي من يستحق.. هو نفسه عبدالوهاب( مستشار الأسرة المصرية) من خلال صفحته الأشهر( بريد الجمعة) يكتب رسائلها بحرفية أديب متمكن, وبمصير إنسان يحب الخير للجميع ويسعي لنشر الفضيلة.
الاهرام اليومى الجمعة
وهو نفسه عبدالوهاب رئيس تحرير( مجلة الشباب) التي أثبت بها أن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء, فكانت المجلة الأكثر توزيعا بين كل المجلات المصرية برغم خلوها من مشهيات الصحافة.. أذكر جيدا ليالي السهر في تجهيز واخراج المجلة, وأذكر جيدا تكليفك لي بستر ما تعري من صور الفنانات, أذكر جيدا المقص والكاتر وأنابيب اللصق والأوراق الملونة التي كنت أجمعها تحسبا للون الفستان الذي علي أن أطيله أو أغطي صدره المفتوح..الآن أساليب الستر سهلة من خلال الكمبيوتر والفوتو شوب لكن قليلون هم ياصاحبي من يحرصون عليه..
وأخيرا عبدالوهاب في كل ما سبق مهنيا وإنسانيا كان هو نفسه عبدالوهاب مدير تحرير الأهرام ورئيس الديسك المركزي الرجل الوقور, الحازم, المسئول, العاكف في مكتبه الضيق علي الأوراق يراجع بنفسه كل خبر وكل موضوع قبل النشر, ويستقبل الصغير قبل الكبير من أسرة الأهرام, ويجتهد في حل مشكلاتنا التي لا ولن تنتهي...
إيييه ياعبدالوهاب.. هل أنت بحاجة ـ بعد كل هذا الذي فعلت ـ للسطر الذي أوصيتني بكتابته؟!..علي كل حال ها أنا قد فعلت ياصاحبي, ولا أظن أني مهما كتبت سأضيف جديدا إليك يا حضرة المحترم..
الاهرام اليومى الجمعة
المواضيع المتشابهه 
